الملحق الثقافي:
تحدّث برتراند رسل (1872-1970) بوضوح عن مسألة “الإنسان العملي” practical man الذي يرى الفلسفة مجرد سعي نحو المختلف غير الهام والتافه. النظر إلى الفلسفة بهذه الطريقة هو نتيجة لـ “التصور الخاطئ عن الغاية من الحياة” وعن “نوع الخير الذي تسعى الفلسفة لتحقيقه”.
يقارن رسل منفعة الفلسفة مع منافع العلوم الفيزيائية. الدراسات العلمية كان لها تأثير بعيد المدى على البشرية من خلال الاختراعات، بينما الفلسفة هي بالأساس تؤثر على حياة الدارسين لها، وهؤلاء يؤثرون فقط بشكل غير مباشر على الآخرين. لذلك، فإن القيمة الرئيسية للفلسفة، توجد في طلابها. (رسل) يجعل القارئ يحرر ذهنه من التحيزات العملية والأحكام المسبقة. فإذا كان الإنسان العملي يهتم فقط بإطعام جسده وبحاجاته المادية، فإن الموقف الفلسفي يعترف أيضاً بالحاجة لإطعام الذهن.
إن هدف الفلسفة هو تحقيق المعرفة من خلال النقد، وهو”الذي يعطي الوحدة والنظام للعلوم”. غير أن الفلسفة لا تؤكد على معرفة محددة هامة مثلما يفعل التاريخ أو الرياضيات أو الفيزياء. سبب عدم التزام الفلسفة بمثل هكذا دليل، هو لأنها عندما تصبح المعرفة المحددة حول موضوع معين ممكنة، فإنها ستنفصل مكونة حقلاً آخر. إن دراسة الكواكب أو العلوم الطبيعية أو ذهن الإنسان نشأت في الأصل من التحقيقات الفلسفية، والآن تواصل نشاطها العلمي ضمن حقول علم الفلك والفيزياء وعلم النفس. مع ذلك، جزء من عدم التأكد في الفلسفة يأتي من طبيعة الأسئلة التي تتولى الإجابة عليها. هذه الأسئلة تعالج اهتمامات الإنسان الأكثر عمقاً: “هل للكون أي خطة أو هدف، هل هو التقاء لذرات بالصدفة؟ هل الوعي جزء دائم من الكون بما يمنح أملا للنمو اللامتناهي في الحكمة، أم أنه حادث عابر في كوكب صغير يجب أن تصبح الحياة فيه بالنهاية مستحيلة؟ هل إن أهمية الخير والشر هي للكون أم للإنسان فقط؟ إلى جانب حجم هذه الأسئلة، فإن مختلف الأجوبة التي تقترحها الفلسفة هي عادة “ليست حقيقة واضحة”. إن متابعة الفلسفة ليست فقط اقتراح أجوبة لتلك الأسئلة، وإنما لتجعلنا أكثر تحسساً لأهميتها، ولتجعلنا واعين بـ “الاهتمام التأملي في الكون”، والذي قد ننساه.
حتى لو أن بعض الفلاسفة طوروا برامج من التفكير تقدّم استنتاجات محددة حول العقائد الدينية والمعرفة الإنسانية والقضايا الأخرى، فإن رسل يرى أن مثل هذه المحاولات هي تصريحات دوغمائية غير حكيمة.
في الحقيقة هو يرى، أن قيمة الفلسفة تبدو في لايقينيتها. هو يكتب “الإنسان الذي ليس لديه ميل فلسفي، سوف يعيش حياته سجيناً في التحيزات المشتقة من الفطرة العامة والمعتقدات التي اعتاد عليها في عمره أو بلده أو من الأعراف التي تطورت في ذهنه بدون استشارة مقصودة من عقله”. التفلسف من جهة أخرى، يسمح لنا أن نرى حتى الأشياء العادية بطريقة غير مألوفة. مع أن هذه الاعتبارات تُضعف يقيننا حول العالم، لكنها تقترح إمكانات هائلة “توسّع الأفكار وتحررها من استبداد العادات”. ومع أننا نفقد القليل من ثقتنا في ماهية الأشياء، لكننا نكتسب معرفة بما هي عليه. الفلسفة تطرد الدوغمائية المتعجرفة وتحرر “إحساسنا بالدهشة”.
التفكير الفلسفي أيضاً له قيمة بفضل الأشياء التي يتأملها والتمييز بين تلك الاشياء من جهة و”الأهداف الشخصية” والمصالح الخاصة من جهة أخرى. الفلسفة. حسبما يذكر رسل “بطريقة أو بأخرى، إذا كان على حياتنا أن تكون عظيمة وحرة، يجب علينا أن نهرب من سجن عالمنا الخاص”.
عقيدة رسل هي أن كل ما يعتمد على العالم الخاص “يشوّه هدف التأمل ويمنع اتحاد الشيء والفكر”. التأمل الفلسفي يرعى هذا الهروب عبر توسيع الذات. رسل يؤمن أن القيمة الأساسية للفلسفة هي ليس في أي نوع من الأجوبة المحددة، وإنما هي توجد في الأسئلة ذاتها. هو يستنتج أنه “من خلال عظمة الكون الذي تتأمله الفلسفة، يصبح الذهن عظيماً أيضاً”.
التاريخ: الثلاثاء14-4-2020
رقم العدد : 994