ثورة أون لاين:
آراء
الاربعاء 10/10/2007
ياسين رفاعية
أنا متهم بالسوداوية,لكنني لا اعتبرها تهمة إنها واقع من الحياة العربية عموما.
من هذا السقوط المريع لكل أحلامنا القومية كأن أمة بكاملها تموت ولا من يهتم حتى بدفنها.
إن أي إنسان مهما بلغت ثقافته كبيرا كان أم صغيرا يقول لك:إننا نموت ,حروب أهلية ,مؤامرات ,انقلابات تشتت ,ما من بلد عربي مرتاح, واقسى ما في الأمر هذا البلد العظيم العراق لننظر إلى ما آلت به الأمور التي تتطور من سيئ إلى أسوأ وربما لن تقوم قائمة لهذا البلد ولو إلى عشرات السنين…وعلى الخارطة العربية ليس هناك (أحد أحسن من أحد) كلنا إلى الهاوية.
وعلى الصعيد الشخصي فحدث ولا حرج الموت يلاحقنا على مدار الساعة ويخطف من صفوفنا شعراء وفنانين وموسيقيين كأن ملاك (الموت ضاق خلقه منا) فآثر أن يسحبنا الواحد تلو الآخر كما لو أن كلا منا يحمل جثته على كتفيه وبتنا نحاول أن نحصل على قبر لنا في هذه الزحمة بين القبور ولا ننجح.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر,فأتذكر الملياردير اللبناني إميل البستاني الذي (أمواله لا تأكلها النار) وصاحب أجمل وأروع فندق في لبنان وفي مصيف (بيت مري) اسمه فندق البستان, فكر الرجل بآخرته ومثل معظم الناس أراد أن يشتري قبرا يدفن فيه بعد مماته .
اشترى قطعة أرض مساحتها نحو خمسين مترا مربعا وبنى فيها قبرا على طريقة (خمس نجوم) إذ فرشه بالسجاد الفاخر وأضاءه بالكهرباء وزينه باللوحات الفنية وترك له طريقة مبتكرة في دخول الهواء والخروج منه وأحاطه بحديقة من الزهور النادرة واستقدم أغلى أنواع الرخام من إيطاليا وكتب على لوح منه:هنا يرقد إميل البستاني .
وما حصل بعد ذلك أن عطلا طرأ على طائرته الخاصة وهي في الجو كان قادما فيها من الولايات المتحدة برفقته سكرتيرته وأحد مرافقيه والطيار طبعا .
سقطت الطائرة في البحر,وجاء المتخصصون في الغطس بحثا عن جثته لإقامة جنازة له ودفنه في ذلك القبر الذي بناه,فعثر الغطاسون على جميع مرافقيه فيما عداه ظل هؤلاء يغطسون على مدار الساعة لأكثر من أسبوعين دون أن يعثر له على أثر .
استقدمت عائلته عددا من الغطاسين المحترفين من كل أنحاء العالم ولكن دون جدوى فلا عثروا على شيء منه ولا لفظه البحر إلى الشط كما هي العادة إذا غرق في لجة البحر إنسان ما.
وهكذا لم يتح للرجل أن يدفن في القبر الذي بناه وكان قد افتتحه باحتفال كبير ودعا كل معارفه واصدقائه لحفل الافتتاح وفتح عدة زجاجات من الشمبانيا وألقى كلمة طريفة أنه عندما يموت سيكون هذا القبر مآله الأخير ولكن أمنيته لم تتحقق.
ليس هناك أغرب من الموت
إنه حادث يومي وعلى مدار الساعة حيث يموت في العالم الملايين ولا تعرف في أي بلد ستموت وفي أي قبر ستدفن وحادثة إميل البستاني واحدة من آلاف الحوادث.
صديقنا الراحل عبد الله الشيتي الذي عاش في الكويت معظم عمره نحو أربعين سنة وأصبحت أحواله المادية جيدة فسافر إلى دمشق واشترى قبرا في مقبرة الباب الصغير وتعمد أن يكون قريبا من قبر معاوية المهمل للأسف ولكن عبد الله مات في الكويت ودفن فيها .
هكذا يصبح الإنسان مالئ الدنيا وشاغل الناس لا شيء بعد موته بل ينساه أقرب الناس إليه من الأولاد إلى الزوجة التي إذا كانت شابة تفكر بالزواج بعد أربعين يوما من رحيل الزوج والعكس صحيح أيضا.
يتفلسف المتفلسفون فيقولون:الموت لا يعني أحدا وإنما الحياة هي التي تعني الكل..وهذا صحيح حتى الميت لو أتيح له أن يقول آخر كلمة فهو يجسد الأحياء.
ما الموت? هكذا يزداد التساؤل ونحاول دائما أن نتناساه ما حقيقة الموت? لماذا نسقط الموت من حسابنا دائما حتى عندما نواجهه?.
كل شيء في ا لحياة قد يكون مفاجآت:الحب ,ربح ورقة يانصيب,ترفع إلى وظيفة أعلى,سفر مفاجئ,رحلة لم تكن تخطر على البال.
فالحياة ملأى بالمفاجآت إلا الموت وحده لا يحتوي على المفاجأة فنحن ننتظره وإن كنا نتحاشى ذكره لكنه في المحصلة ليس مفاجأة لأنه أمر محتوم إذا لم يأت اليوم فسيأتي غدا.
الإنسان يحرق ذاته بذاته وهو شاب قد لا يفكر بذلك الأمر الخفي وعندما يتقدم في العمر يبدأ في التفكير فيه-ونعرف أن بين كل شهيق وزفير يدخل الأوكسجين مثل البوتو غاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم ويولد حرارة تطهو لنا لحما آخر جديدا نضيفه إلى أكتافنا.
هذه الحرارة هي الحياة ولكنها-أيضا- في الوقت نفسه احتراق الموت في صميمها والهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذا ? وكل منا يشبه نعشا يدب على ساقين.
يأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة حقا أين المفاجأة إذا? إذا كان مصيرنا مقررا سلفا.
حتى الأفكار تولد وتورق وتزدهر في رؤوسنا ثم تذبل وتسقط .
الحيوانات تموت من الفيل إلى النمر إلى الثعلب.
والغريب أن الفيل وحده من بين كل حيوانات الغابة يعرف موعد موته هنا تتجلى الحكمة الإلهية ماذا لو سقط ميتا في الغابة فيصبح لحمه طعما لبقية الوحوش.. وهو لا يريد هذا المصير.. وعند إحساسه بأن شيئا ما يموت فيه يذهب من تلقاء نفسه إلى مقبرة الفيلة التي عادة تكون متخفية في غار ما أو واد سحيق يثني قائمتيه الأماميتين ويغفو منتظرا موته الذي يجيء بعد ذلك في لحظات لكن كل المخلوقات على وجه الأرض لا تعرف أبدا متى تموت إلا أنها تعرف بالتأكيد أنها ستموت.
بل لو نظرنا إلى أنفسنا وراقبنا حياتنا نلاحظ أننا معنويا نموت وأدبيا نموت وماديا نموت في كل لحظة والأصدق من كل هذا أن نقول:إننا نعيش ماديا, نعيش أدبيا ,نعيش معنويا نعيش لأنه لا فرق يذكر بين الحياة والموت لأن الحياة ويا للرهبة هي عملية موت.
في الحقيقة الحاضر هو جثة الماضي والحياة تمر بنا بأزمات وتوترات على مدى عمرنا نخسر المال..نخسر الحب..نخسر المباراة..نخسر الصداقة, كل ذلك ينتزع من أعماقنا نقطة دم أو خلية أو عصباً لذلك تقصر حياتنا, ونفتقد منها أياما أو شهورا أو سنوات, إننا نذوق الموت في كل لحظة ونعيشه في كل لحظة, وهذا صراع كبير ينتابنا شئنا أم أبينا.
الموت إذا ليس عنصر مفاجأة, إنه حدث دائب, نراه أولا في الآخرين, فلان مات, فلان دهسته سيارة, فلان سقط عن الرافعة, فلان غرق في البحر, أخبار نقرؤها في الصحف ونسمعها في الإذاعات, إنه حالة مستمرة على مستوى الفرد وعلى مستوى البشرية.
ما السر إذا في هذه الدهشة التي تصيبنا عندما يقع أحدنا ميتاً, ولماذا يبدو لنا هذا الحدث غريباً وغير قابل للتصديق, لماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذب عيوننا, ونكذب حواسنا, ونكذب عقلنا? لماذا لانحمل هذا الحادث على محمل الجد, ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه, وتنخلع قلوبنا حين نصدقه وتضطرب حياتنا حينما ندخله في حسابنا?
السبب يا سادة, لأنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة فما يحدث داخلنا من موت لا نراه, لا نرى كرات الدم وهي تولد وتموت لا ترى الخلايا وهي تحترق, لا نرى صراع الميكروبات وهي تقتلنا ونقتلها, وخلايانا لا ترى نفسها وهي تعنى كل ما يحدث في داخلنا يحدث في الظلام ونحن ننام ملء جفوننا وقلوبنا تدق بانتظام وتنفسنا يتردد في هدوء, الموت يسترق الخطا كاللص تحت جنح الليل, لماذا دائما نفكر أن الذين يموتون هم الآخرون وليس لنا علاقة بهم, إننا نحن من هؤلاء شئنا أم أبينا, إننا مثلهم ميتون, فاصلح حالك, هناك آخرة هناك حساب وصراط مستقيم, هناك جنة وهناك نار افتح عقلك جيدا لا يصح في الختام إلا الصحيح لست أنا ولست أنت فوق الجميع كلنا سواسية في هذه الحياة, الفقير والثري الحاكم والمحكوم, القائد (والنفر) مآلنا تلك الحفرة المظلمة المحفورة على قد جثاميننا.
لا تخف, كما أن علي ألا أخاف,, لنعش توهج الحياة قبل أن نتآكل لنحب, لنخلص في صداقاتنا, لنكن أحراراً إلى آخر حدود الحرية, فتلك الحياة ما بين الولادة والموت مجرد حلم قصير جدا جدا بعمر الزمان, فلنفتح باباً لنا على الآمال والمستقبل فما من شيء سيبقى على حاله.
كما الخيط في الثوب
كنت ساطعاً باسمك
منذوراً
في الحضور والغياب
أتهجى حروف اسمك كالصلاة
في رحيلك
داهمتني المفاجآت
بت أقبض على الجمر كي أنسى
فلا أنسى
كنت موشى بك
كما الشجرة بأزهارها
كما اللوحة
كما القصيدة
لم تعد لي القدرة على الحياة
كنت مشغولا بك
كما الخيط في الثوب
ليس لي بيت لست أنت فيه
أصبح منفى
وغرفة لا هواء
أصبح البيت سجناً
بلا قضبان
أسلمتك قياد نفسي
فمن يأخذ بيدي الآن
كنت الندى
وأهدابك ترفرف كالفراشات
كنت وهج برق
كل صباح
اليوم
الليل والنهار ليل