ثورة أون لاين-يمن سليمان عباس:
في زحمة ما يجري، وسطوته وبزوغ التطبيع الثقافي المبرمج ليكون مدونة العصر عبر الدراما المالية التي استباح بعضها الكثير من القيم والمبادئ والهوية.. في هذا الجو الملبد والملتبس، يطرح المتابع سؤاله الملح: لماذا تعفن الإبداع عند البعض وتحول إلى نصوص هلامية لا معنى لها؟ من الذي أقنعهم أن الإبداع هو تهويمات في الخلاء، ورصف مفردات وبهرجة لفظية وصوتية، ليصبح في النهاية فقاعات تنتهي لحظة صدورها من الحنجرة؟ أو حين يجف حبرها، بل ربما تتبخر قبل ذلك.
اليوم نحن بأمس الحاجة إلى إعادة نبض الشعر والإبداع وفعل المقاومة والقدرة على اجتراح الأمل وتطويره ليكون استراتيجية حياة، لا أن نزرع اليأس والقنوط.
حين اشتدت المآسي علي سورية أيام الاحتلال الفرنسي كان الشعر الصوت القوي، ومازال أيضاً بمواجهة الكيان الصهيوني.. في فلسطين المحتلة كان أدب الأرض المحتلة نبضاً ورسالة وصوتاً مدوياً، هز الكيان الصهيوني، وقد توقف كثيرون من النقاد والمتابعين عند هذه الظاهرة التي ترسخت لتصبح فعلاً مقاوماً، وصدرت عشرات الكتب والدراسات والمختارات الشعرية عنها، منها كتاب هارون هاشم رشيد: الشعر المقاتل في الأرض المحتلة، وغيره من الكتب المهمة جداً.
وفي العالم كان للشعر موقفه الرائد من القضايا العادلة التي تناضل من أجلها الشعوب، وعلى رأسها قضية فلسطين.. اليوم نحن بأمس الحاجة في الوطن العربي إلى استعادة الأدب دوره الجمالي والتنويري والقدرة على إحداث التغيير نحو الجمال والعطاء، لا الهروب نحو تهويمات ما أنزل الله بها من سلطان.
في كتابه الآنف الذكر يقدم هارون هاشم رشيد مختارات من الشعر المقاتل في الأرض المحتلة، وكم هو جميل اختياره لنبوءة ابراهيم طوقان التي نراها الآن على أرض الواقع :
أمامَك أيُّها العربيُّ يومٌ
تشيبُ لهولهِ سودُ النواصي
وأنت كما عهدتك لا تبالي
بغير مظاهِرِ العبَثِ الرّخاصِ
مصيرك بات يَلْمُسُه الأداني
وسار حديثُهُ بين الأَقاصي
فلا رَحْبُ القصور غداً بباقٍ
لساكنها ولا ضيق الخصاصِ
لنا خصمان ذو حوْلٍ وطوْلٍ
وآخر ذو احتيالٍ واقتناصِ
وتواصوا بينهم فأتى وبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي
مناهجُ للإبادة واضحاتٌ
وبالحسنى تنفَّذُ والرصاصِ
أما راشد الحسين الذي عرف مراراة السجون فهو القائل مخاطباً حبيبته:
قالت أخاف عليك السجن، قلت لها:
من أجل شعبي ظلامُ السجن يُلتَحَفُ
لو يقصرون الذي في السجن من غرفٍ،
على اللصوص لهدّت نفسها الغرف!
لكنْ بها أمل أن يستضاف بها
حر فيُزهر في أرجائها الشرفُ.
قالت:
حلمْتُ بطفلٍ
لا أريد له أباً سجيناً..
فقلتُ: الحلمُ يعتكف
أتحلمين بطفلٍ
قلب والده عبدٌ؟!
أعيذك من عبدٍ له خَلَفُ.
هو الشعر الذي يجب أن يحمل الرسالة، الشعر الرؤيوي كما يراه أدونيس، وكما يعرفه نزار قباني :
الشعر انقلاب بالكلمات يحاول تغيير وجه العالم.. انقلاب يقوم به عاشق.. ليحوّل الأرض كلها إلى بستان للعشق.
الشعر خطاب إنساني يتوجه إلى (الآخر).. ولا قيمة لشعر يخاطب الفراغ.. أو الملائكة.. أو يخاطب نفسه.
الشعر فعل رقيّ وحضارة ، وبطبيعته مع الشمس ضد العتمة.. ومع الوردة ضد المسدّس.. و مع الليبرالية ضد القمع.. ومع الحب ضد الكراهية.. ومع المشنوق ضد حبل المشنقة.