فرخ البط القبيح

كتبَ هانس أندرسون ( 1875 – 1805)، الشاعرُ وكاتب الأطفال الدانمركي الشهير كثيراً من الحكايات والقصصِ الخالدة، التي مازالتِ البشريّةُ تتناقلُها جيلاً بعد جيل، صغاراً وكباراً؛ وهل يمكن لمن قرأَ: “ملابس الإمبراطور” أو “بائعة أعواد الثقاب” أو “جندي الصفيح”، أو “الأميرة وحبّة البازلاء” أو “ملكة الثلج” أن ينسى هذهِ الحكايات الباهرة، لقد نمت وكبرت مع كثيرٍ مِنّا وكانت كل قراءة جديدة لها تكشف لنا جوانب جديدة من جوهرنا وجوهرها. كانت تعيدنا إلى طفولتنا كما تفعلُ بعض حكايات جَدّاتنا، بل تعيدُ إلى انفعالاتنا فتوَّتَها وسحرَها القديم، وانفتاحها على الحياة، وصفاءها الضائع.

إنّ مثل هذهِ الحكايات الجميلة تمتزج بحياة الطفل، وتُصبِحُ حقيقةً في وعيه، وأنتم تعلمون أنّ من أوائلِ أصدقاءِ الطفلِ الحقيقيين هم أبطال الحكايات التي سردوها له أو قرأها، أو شاهدها رسوماً مُتحرِّكة. ولقد كانَ أحد أصدقائي الجميلين منذُ سنواتٍ بعيدة بطلُ أندرسون المعروف: “فرخ البط القبيح”، خلبت لُبّي هذهِ الحكاية التي تبدو بسيطةً ساذجة لا مغامرات جسورة فيها كما هي الحال مثلاً في “البجعات المتوحشات”، وكان أكثر ما سحرني هو ذلك التحوّل الرائع المفاجئ لفرخ البطّ القبيح إلى طائرٍ تمّ جميل، انضمَّ إلى سربِ طيرٍ يشبههُ وكان الأجمَلَ في السربِ نفسه، لقد انتصرت تلكَ الروحُ الشفّافة؛ لكن الحارة والقويّة القابعة في ذلك الجسد الضئيل على تعالي الديك الرومي والبطّة السمينة، على فصاحةِ وادعاءِ المعرفةِ عند القطِّ التافه الذي جُلّ ما يعرفه هو كيفَ يقوّس ظهره كالكعكة ويهرُّ في وجهِ خصومه، انتصَرَ على غباء تلك الدجاجة الراكنة إلى رتابةِ حياتها. ها هو ذا الفرخِ الذي تأخّرَ في خروجِهِ من البيضة عن إخوتِهِ، ونعَتَهُ الجميعُ بأنه قبيح وغريب ولا ينتمي إليهم، حتى والدتُهُ البطة الأم عجزت عن الدفاع عنه، ها هو ذا يتصرّف بشجاعة نادرة، فهو لا يتملّق من حوله ولا يرجوهم ولا يسعى للتكيّف، جُلّ ما يفعله هو الشعور بالمرارة وربّما السخرية مما يعذّبه؛ فهو يحمدُ الربَّ بألم حين يبتعدُ كلبُ الصيدِ عنه بسبب قُبحه، ويستغرب بحسرة أن تبلِّغه الأوزات البريّات إنّه قبيح جداً، ولا يمكن أن تقبلَ به أيّ واحدة منهنَّ زوجاً لها، مع أنّه ما فكّر بالزواجِ إطلاقاً!

إن كل تلك المعاناة التي تقع على رأس الفرخ الصغير وتجعله يغادر تلك المخلوقات من حولِهِ، دون أن يتنازل لها سُتفضي في النهاية إلى ما لا يتوقّعه.. ها هو ذا ينظرُ إلى الماءِ فلا يرى ذلك الفرخ الرمادي الغريب بل طائِرَ تمٍّ أبيضَ جميلاً، وها هو ذا ينظرُ إلى أعلى فيرى سربَ طيرٍ يشبهه فيضربُ بجناحيه ويكتشف أنهما تحملانه إلى أعلى؛ هو ليس قبيحاً إذاً… لكنّه مختلف؛ والمختلفونَ المتميّزونَ يدفعونَ دوماً ثمن اختلافهم وتميّزهم…

كل ما سبق أحسستُ به، وعرفته، لكنَّ مقالاً رائعاً لإيفريم كارانفيلوف، ترجَمَةُ المترجم الراحل ميخائيل عيد حَمَلَ عنوان “فرخ البط القبيح أو الشاعر” فَتّح عينيَّ على ما لم أعرفه من قبل؛ يروي كارانفيلوف أنَّ أندرسن أجابَ حينَ سُئِلَ عن سيرةِ حياته: “اقرَؤوا حكايةَ فرخ البط القبيح”، وأنّه قالَ في موضعٍ آخر “فرخ البط القبيح هو أنا”، إذاً – وفقَ كارنفيلوف – كان هذا المبدعُ من خلالِ بطلِهِ المحبوب يحكي عن ذاتِهِ، عن روحِهِ؛ “في هذهِ الحكاية حكى سيرةَ حياتِهِ، حكى عن وطنه وعن حياة الناس، عن إبداعِهِ، عن كل ما هو سامٍ وجميل، عن كل ما أثقلَهُ. وأكثر من ذلك: ليس تاريخ فرخ البط القبيح بتاريخ هانس أندرسن وحدَه. إنه تاريخ جوليين سوريل، تاريخ جان جاك روسو – فرخ البط الشريد بلا مأوى الذي يتحوّل إلى تمّ جبّار، إلى مُغنٍ للحريّة، وذلك هو تاريخ جورج غودون بايرون، الذي طُردَ من إنكلترا لأنّه لم يستطع أن يخفي بلفاعٍ مصنوعٍ من جلد القاقم أجنحتَهُ التميّةَ، وهذا تاريخ ميخائيل ليرمنتوف الذي رُميَ بالرصاص في القوقاز لأنّه لم يسترْ بريشِ بطِّ معطفِهِ كضابطٍ في الحرس جناحَ شاعريتهِ التِّمي الأبيض” ويصل كارانفيلوف إلى أن هذهِ الحكاية “هي تاريخ جميع لأولئكَ الذين عانوا طوال أجمل فترة من حياتهم باسمِ جوهرِ أجملِ مكنوناتهم، وجميع أولئكَ الذين أخفوا أجنحتهم التميّة أو أُرغموا على إخفائِها، الذين أُظهروا بمظهِرِ فراخ البط القبيحة الحزينة، لأنّهم أدركوا أنهم طيورُ تم!”

وسنستطيعُ بسهولة أن نتقصّى سيرة أندرسن نفسه في هذهِ الحكاية لو أردنا منذ ولادتِهِ لأبٍ يعمَلُ حَذّاءً وصانِعَ دمىً خشبيّة، ولأمٍّ تكبر زوجها بسنواتٍ غير قليلة ومدمنة على الكحول مروراً بعدمِ الاعترافِ به شاعِراً وكاتباً والانتقاص من اختيارِهِ لكتابةِ الحكايات، هو صنف يأتي عند النقّاد يومها في آخر قائمة الإبداع الأدبي، وصولاً أيضاً إلى اعترافِ معظم دول أوربّا به ولا سيّما بريطانيا وكتّابها مثل تشارلز دكنز به، قبل أن يحضى بذلك في بلدِهِ…

لكنني لن أفعل في هذهِ العجالة بل سأختِمُ بالقول: إن هذا الكاتب العظيم استطاعَ أن يحيلَ مصيرُهُ الشخصي إلى حكايةٍ خالدة، ستقرؤها الأجيالُ بعد الأجيال وتُسحَرُ بها.

إضاءات – د. ثائر زين الدين

آخر الأخبار
معركة الماء في حلب.. بين الأعطال والمشاريع الجديدة تأهيل طريق مدينة المعارض استعداداً للدورة ٦٢ لمعرض دمشق الدولي التوجه إلى التمكين… "أبشري حوران".. رؤية استثمارية تنموية لإعادة بناء المحافظة السيطرة على حريق شاحنة في  حسياء  الصناعية تفاصيل مراسيم المنقطعين والمستنفدين وتعليماتها بدورة تدريبية في جامعة اللاذقية الكيماوي… حين صارت الثقافة ذاكرة الدم  واشنطن في مجلس الأمن: لا استقرار في سوريا من دون عدالة ومشاركة سياسية واسعة  " التلغراف ": الهيئة الدولية المسؤولة عن مراقبة الجوع بالعالم ستعلن للمرة الأولى "المجاعة" في غزة ضبط لحوم فاسدة في حلب وتشديد الرقابة على الأسواق تنظيم سوق السكن في حلب والعمل على تخفيض الإيجارات "المجموعة العربية في الأمم المتحدة": وحدة سوريا ضمانة حقيقية لمنع زعزعة الاستقرار الإقليمي بين الهجوم والدفاع.. إنجازات "الشيباني" تتحدى حملات التشويه الإعلامي منظمة يابانية: مجزرة الغوطتين وصمة لا تزول والمحاسبة حق للضحايا مندوب تركيا في الأمم المتحدة: الاستقرار في سوريا مرهون بالحكومة المركزية والجيش الوطني الموحد بيدرسون يؤكد ضرورة احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها ورفض الانتهاكات الإسرائيلية الشيباني يبحث مع الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين تعزيز التعاون صحيفة عكاظ :"الإدارة الذاتية" فشلت كنموذج للحكم و تشكل تهديداً لوحدة واستقرار سوريا قرى جوبة برغال بالقرداحة تعاني من أزمة مياه حادة "نقل وتوزيع الكهرباء" تبحث في درعا مشروع "الكهرباء الطارئ" في سوريا في ذكرى مجزرة الكيماوي .. المحامي أحمد عبد الرحمن : المحاسبة ضرورية لتحقيق العدالة