ثورة أون لاين – د.ثائر زين الدين:
في قصيدةٍ مَعروفة تحمل عنوان ” منارات ” يقدّمُ بودلير نخبة من الفنانين التشكيلين المبدعين على أنهم جسر التواصل العظيم بين البشريّة والسماء، وسنجد أن مادة القصيدة هي أسماء ولوحات هؤلاء الفنانين التي شاهدها الشاعر في المتاحف والمعارض، التي زارها وشيء من حياةِ بعضهم، أو من رؤية الشاعر الخاصة لهم، والقصيدة كما يكتبُ لويس هورتيك : تشبِهُ: ” صفحة من صفحات النقد الفني يكثفُ فيها صاحبها ما استهواه في هؤلاء الأعلام الذين آثرهم على غيرهم من الفنانين، ويجمَعُ فيها بأسلوب حاذق بين دقّة التصوير وشمول العبقريّة التي يذكرها بإيجاز. وليس أفضل من هذهِ القصيدة وسيلةً نقتربُ بها إلى بودلير ونتعرف طبيعة خيالِهِ ومهارة نظمه “.
القصيدة تتحدث عن الفنانين : روبنز، دافنشي، رامبراندت، ميكلا نجلو، بوجيه، فاتو، غويا، دولاكراوا، ولنقرأها معاً :
” روبنز نهر النسيان وحديقة الكسل
ووسادة من أجسام نضرة يستحيل معها الحب
لكن الحياة زاخرة فيه، لا تفتأ تضطرب
اضطراب الهواء في السماء، والأمواج في البحر.
ليوناردو دافنشي مرآة عميقة قاتمة
تلوح فيها ملائكة فاتنات لها ابتسامات عذاب
مفعمة بالأسرار، في ظلال الثلج المتجمد والصنوبر الممتد في الأفق.
رمبراندت مستشفى حزين يملأه الأنين
لم يزين إلا بصليب واحد كبير
وفيه تصعد صلاة حزينة تنطلق من الهجر والفساد
بينما تومض فيه فجأة شمس الشتاء.
ميكلا نجلو مكان قفر فيه رجال عمالقة
امتزجت بالرسل والمبشرين.بينما انتصبت قائمة
في ضياء الشفق أشباح جبارة
تمزق أكفانها بأصابعها التي زال عنها تشنجها.
بوجيه. أيها السجّان الكئيب
أنت الذي عرضت في لوحاتك جمال السفلة
وغضب الملاكمين، و قحة البهائم
أيها القلب الكبير الذي انتفخ زهواً .أيها الرجل الضعيف ذو الوجه الشاحب”
فاتو حفلة راقصة فيها قلوب كثيرة و شهيرة
تهيم وتحترق كالفراش
في قاعات حديثة لطيفة تضيئها المصابيح
التي تصب الجنون فوق حلقات الرقص
غويا حلم رهيب مليء صوراً غريبة
وأجنة تشوبها ساحرات في أعياد السبت
و عجائز يتزينَّ أمام المرايا .وطفلات عاريات
يُغوين الشياطين حين يحكمن شَدَّ جواربهن
دولا كروا بحيرة من الدماء تحوم حولها ملائكة أشرار
ويظللها الصنوبر دائم الخضرة
وتحت سماء كئيبة تنطلق أصوات الأبواق الغريبة
كزفرة مكتومة من زفرات موسيقى ويبرweber
إنها حقاً يا إلهي الشهادة المثلى
التي تنهض دليلاً على كرامتنا
تلك الزفرة الحرّى التي تتناقلها الأجيال
قبل أن تتلاشى تحت أقدام خلودك السرمدي “.
وإذا كنا في المقطع الأوّل فقط لا نستطيع أن نجد لوحة محددة اتكأ عليها بودلير في حديثه عن روبنز، بل أطياف من بعضِ أعماله، فإننا في الرباعيات التالية كلها نكتشفُ تسّلل لوحات الفنانين الذين يتحدث عنهم لرسم صورة خاصة لأصحابها على لسان الشاعر.
ففي المقطع الثاني حين يصبحُ الحديثُ عن ليوناردو دافنشي نلتقطُ سريعاً وجود لوحة ” عذراء بينَ الصخور” من خلال كلمة ” الملائكة ” في النص ومن خلال ” ابتسامات عذاب ” وقد يوحي المقطع أيضاً بتأثير الموناليزا، ولاسيّما الخلفيّة حيثُ الصخور والجبال الثلجية… وفي المقطع الخاص بالفنان رمبراندت نلاحظ استلهام لوحة ” قطعة المئة فلوران ” للتعبير عن صاحبها، وهناك مفردات فنية واضحة تحولت إلى صيغ بيانية مع بعض التحوير، فالمصلوب شديد الشحوب الذي تنبعثُ منهُ المعجزة في اللوحة كنور عذب تحول إلى ” صليبٍ واحد كبير ” وإلى “صلاةٍ حزينة” في الرباعية، حتى إذا وصلنا إلى المقطع الخاص بميكيل انجلو لاحظنا مباشرةً تأثير مشاهد القيامة التي صوّرها ميكيل انجلو في كنيسة السيكستين.
وسيستمرُ الأمرُ على هذا النحو فيستلهمُ بودلير لوحة ” مشاهد غزليّة ” لفاتو، ولوحتي ” مطبخ الساحرات ” و ” الغانيات ذوات الأقدام الصغيرة العارية ” لغويا، وأجواء دولاكروا وألوانه الحادة المتناقضة من أحمر وأخضر .
أما خاتمة القصيدة التي تأتي على شكلِ ثلاث رباعيات، والتي ينبغي أن تسوّغ لنا العرضَ الذي رأيناه لأعلام فن التصوير، وهم الذينَ ينتمونَ إلى حقب ومراحل مختلفة، جاءت غير مرتبة زمنياً في النص – فتأتي وكأنها غناءٌ لصوتٍ واحدٍ منفرد تذوبُ فيه الأصوات السابقة المتنوعة جميعها في نغمةٍ قوية وهادئة، تبدو كأنها صلاةٌ كبرى تقدمها الأجيال الإنسانية، وهكذا تنتهي القصيدة بالرباعية الجميلةِ التالية:
” إنها حقاً يا إلهي الشهادة المثلى
التي تنهض دليلاً على كرامتنا
تلك الزفرة الحرّى التي تتناقلها الأجيال
قبل أن تتلاشى تحت أقدام خلودك السرمدي”.
وقد استفاد الشعراء في أوروبّا وأميركا ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين من منجزات الفن التشكيلي المختلفة، واستلهموا كثيراً من اللوحات التي تنتمي إلى المدارس الفنيّة الحديثة في إبداع قصائدهم. ويمكن – أن أضرب مثالاً على ذلك – من تجربة الشاعر الأمريكي من أصل كوبي بابلو ميدينا، و بالتحديد من ديوانه ” الجزيرة العائمة ” ، حيث نقع على ثلاث.
قصائد، هي على التتالي: ” بنزين – Gas ” مكتوبة بتأثير لوحة تحمل العنوان نفسه للفنان الأمريكي إدوارد هوبر، و” حلم جيوتو ” وهي مكتوبة بإلهام ٍ من شخصية الرسام والمهندس المعماري الإيطالي ( الفلورنسي ) جيوتو (1266- 1337) م، أما القصيدة الثالثة فعنوانها ” لاعبو الدومينو ” وهي مكتوبة بتأثير لوحتي سيزان ” لاعبو الدومينو” و ” لاعبو الورق”.