نَظَرات في الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل

الملحق الثقافي:قحطان بيرقدار :

للشِّعر أهمّيّةٌ كُبرى بين الأجناس الأدبيّة المعروفة، ويتذوّقُه الطِّفلُ منذ سنواته الأولى، ويُحبُّهُ لما يتميّز به من إيقاعاتٍ سريعةٍ تألفها الأذن، وأفكارٍ وصُورٍ وأخيلةٍ تميل إليها القلوب، وهو يسهم في تعزيز الجانب الرُّوحيّ والوجدانيّ لدى الطفل، كما يلعب أيضاً، شأنه شأن بقيّة الأجناس الأدبيّة المُوجَّهة إلى الطفل، دوراً تعليمياً وتربويّاً بارزاً.
ولا يُفلِحُ شاعرٌ في كتابة قصيدةٍ مُوفّقةٍ للطِّفل، يَجذِبُهُ عبرَها ويُؤثّرُ فيه، ما لم يكن في الأساس شاعراً موهوباً ومطبوعاً وعارفاً بالشِّعر وفنونه وأساليبه وأشكاله وأوزانه وقوافيه وصُوَرِه وأخيلتِه، «فالشِّعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ …… إذا ارتقى فيهِ الّذي لا يَعْلَمُهْ»، وما لم يكن مُطّلعاً أشدّ الاطّلاع على سماتِ الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل، ومُلِمّاً أيضاً بمفردات عالم الطِّفل وطُرقِ تربيتِهِ وأحلامِه وتَطلُّعاته، وقادراً على النُّطق بصوته والتعبير وفقَ منطقِهِ الطُّفوليّ الخاصّ.
سأذكرُ في هذهِ السُّطور بعضَ سماتِ الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل، وهيَ كثيرةٌ لا ريب، والكلامُ حولَها يطول، ولعلَّ من أبرزِها الأوزان العروضيّة القصيرة السَّريعة المُتنوّعة الّتي تستميلُ إصغاءَ الطِّفل بحركاتِها وسكناتِها ومُحاكاتِها لإيقاعاتِ أحاسيس الطِّفل ومشاعره الخاصّة، فتُدخِلُهُ عالمَ القصيدة، وتُوصِل إليه مضمونَها، وما فيها من جُرعاتٍ جماليّةٍ وقيميّة. يقول الشاعر بيان الصفدي في قصيدة «ضيفي العصفور»:
هذا صُبحُ النورْ
أهداني عُصفورْ
فَفتحْتُ الشبَّاكْ
طارَ هنا وهناكْ
ضَيَّفتُ العصفورْ
من لَوزٍ مَقْشورْ
فالإيقاعُ القصيرُ والسَّريعُ معَ التَّنوُّعِ في القافيةِ والرَّويّ في المقطع السابق بما فيهِ من مشهديّةٍ شعريّةٍ حركيّةٍ، يتناسبُ تماماً مع حركاتِ العصفور، ويُعبِّرُ عنها، ويَجعلُها أقربَ وأوضحَ أمامَ الطِّفلِ، فالعصفورُ حطَّ على الشُّبّاك صباحاً، ثمّ بعد أن فتحَ الطِّفلُ الشُّبّاك صارَ العصفور يتنقّلُ هُنا وهُناك بحركاتٍ سريعةٍ ومُتتابعةٍ.
أمّا الموضوعات التي يمكن أن يُعالجها الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل فكثيرةٌ جدّاً، ومن الضروريّ أن تُختارَ بحرصٍ وتأنٍّ، وأن تكون ملائمةً لمرحلة الطُّفولة المُراد مخاطبتها، وأن تُعالَجَ على نحوٍ فنّيٍّ مرهفٍ بحيث تبقى روح الشِّعر هي المسيطرة، لا أن تتحوّل القصيدة إلى موضوع إنشاء. يقولُ الشّاعر محمد جمال عمرو في قصيدة «أحلى ماما»:
في حضنِكِ أغفُو بأمانِ
وأرى حُلُماً بالألوانِ
في حُلُمي قد صِرتُ البطَلا
ولأمِّي حقّقتُ الأمَلا
صِرتُ كبيراً أبني وطني
يحيا حُرّاً طولَ الزَّمنِ
يمزجُ الشّاعرُ هنا بينَ موضوعِ الأمّ وموضوعِ الوطن في شعريّةٍ لافتة، فالطِّفلُ ينطلقُ من حضنِ أُمِّهِ وما يرمزُ إليه من حُبٍّ وحنانٍ وحُسنِ تربيةٍ إلى بناءِ الوطن والدِّفاعِ عنه ببطولةٍ ليبقى شامخاً حُرّاً، وهو بذلكَ يُحقِّقُ أملَ أُمِّهِ فيه.
ويُعبِّر الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل عن عالم الطِّفل الخاصّ، وأفكاره، وما يُحبُّهُ ويَجذبُهُ من أشياء وحالات، ولعلّ الأجدر هنا أن تُركّز قصيدةُ الطفل على الأشياء الحسّيّة، رابطةً إيّاها ببعض الأشياء المعنوية، وبذلك يحدثُ التأثير المطلوب. يقول الشاعر إبراهيم عبّاس ياسين في قصيدة «أمنيات بُشرى»:
في دَفترِها كَتبَتْ «بُشْرى»
كلماتٍ تبقى للذِّكْرى:
أتمنّى لو أنِّي زهرَةْ
كي أُرسِلَ مِنْ قَلْبي عِطْرَهْ
للأهْلِ، وكُلِّ الأصحابِ
وجميعِ جميعِ الأحبابِ!
فقد وردَتْ في هذا المقطع الذي تروي الطفلةُ «بشرى» فيه أمنياتها الطُّفوليّة العذبة أشياءُ حسّيّةٌ (الدفتر، الزهرة، العطر…)، وكلٌّ منها ينفتحُ على مدلولاتٍ ومفاهيم معنويّةٍ ووجدانيّةٍ مُهمّةٍ، وتقولُ الكثير.
ومن الجدير بالشاعر الذي يكتب للطفل ألا يبقى في بُرجٍ عاجيّ، بل من اللائق أن يكون واعياً بأنّهُ يخاطب طفلاً، لا كبيراً، لذلك ينبغي أن يتقمّصَ شخصيّةَ هذا الطفل، وينطق بلسانه، ويُعبّر عن مشاعره وأحلامه ورؤاه، بلُغتِهِ هو وبطريقةِ تفكيره الطفوليّة الخاصّة، وذلك بعد مراعاته الدقيقة للمرحلة العمرية التي يخاطبها، إذ ثمّةَ اختلافاً واضحاً في طُرقِ التعبير بين مرحلةٍ وأُخرى. يقولُ الشاعر موفّق نادر في قصيدة «صديقنا النّهر»:
هَتَفْنا كلُّنا بالنَّهرِ
نَسألُهُ:
أجِبْ يا نهرُ
علِّمْنا
كلاماً
نحنُ نَجْهَلُهُ
عنِ الأسماكِ
هل تبني لها عُشّا
كما عُصفورُنا الدُّوريُّ
يأتي
حاملاً قشّا؟
فقد استطاعَ الشاعر في هذا المقطع الرَّشيقِ والمُكثَّف أن يتقمّصَ شخصيّةَ الطفل تماماً، وينطقَ بمنطقِهِ الحُلوِ البريء، ويُعبِّرَ عن افتراضاتِهِ وأمنياتِهِ الطفوليّةِ العفويّة الجميلة.
أمّا اللغة التي يستخدمها الشِّعر المُوجَّه إلى الطِّفل، فمن الضّروريِّ أن تكون مفرداتُها سهلةً وعذبةً ولطيفةً ومُتجانسةً وذاتَ إيقاعٍ رشيقٍ، تُناسِبُ مداركَ الطفل ومعجمه اللغويّ في مرحلته الطفوليّة التي يعيشها، وكذلك ينبغي أن تتّسم التراكيب بالبساطة مع الابتعاد عن التراكيب الطويلة الصعبة، والاكتفاء بالتراكيب القصيرة السهلة، فالمطلوب هنا خلقُ حالةٍ من التوازن بين أساليب العربيّة المُستخدَمة والمُستساغَة لدى الطِّفل. يقول الشاعر أسعد الديري في قصيدة «نشيد الطِّفل العربيّ» (أُحبُّ الحياة):
أُحبُّ الحياةَ، أُحبُّ المَرَحْ
وحينَ أُغنِّي يُطِلُّ الفرَحْ
أُحبُّ الرَّبيعَ، ففيهِ الزُّهورْ
ستملأُ يومي بأحلى العُطورْ
فأُبدعُ شِعراً لها في سُرورْ
نُلاحظُ في هذا المقطع المفرداتِ السَّهلة والتراكيبَ القصيرةَ السَّلِسَة والواضحة، بعيداً عن أيّ تعقيدٍ، في مناخٍ لطيفٍ ومُتوازن يقولُ كثيراً من المعاني التي يَفهمُها الطِّفلُ ويَشْعُرُ بها.
وفيما يتعلّق بالصُّور الشِّعريّة، ينبغي أن تكون ملائمةً للطفولة، وبسيطةً وغيرَ مُعقّدة في العناصر التي تتركّبُ منها، وأشيرُ هنا إلى أنّه من المُوفَّقِ جدّاً أن تعتمدَ القصيدةُ المُوجَّهة إلى الطِّفل على الصُّور المُتحرّكة، والمواقف الدراميّة البسيطة، والمشهديّة القصصيّة الشّائقة.. وكلُّ ذلك يسهم في زيادة تأثير القصيدة في وجدان الطفل، وفي تحقيق الغايات المرجوّة منها، كلّ ذلك بإيجازٍ وتكثيفٍ ووضوحٍ بعيداً عن الإطالة والمباشرة الفجّة والوعظ والإرشاد وما يتصل بذلك. يقول شاعر الطفولة الراحل سليمان العيسى:
عمِّي منصورُ النَّجارْ
يضحكُ في يدِهِ المِنشارْ
قلتُ لعمِّي: عِندي لُعبَةْ
اصنعْ لي بيتاً للُّعْبَةْ
هزَّ الرَّأسَ، وقالْ:
أنا أهوى الأطفالْ
فهذا المقطعُ من قصيدةٍ مشهورةٍ للشَّاعر سليمان العيسى حَفِظَتْها أجيالٌ كثيرةٌ لجمالِها، وعاشتْ في وجدانِ كثيرينَ لِما فيها من إبداع، وهي مثالٌ ناصعٌ للصُّور المناسبة للطفولة (يضحكُ في يدِهِ المِنْشار)، كما أنّها تعتمدُ على المشهديّة الحركيّة، وتستفيدُ على نحوٍ مُبسَّطٍ وذكيٍّ من عناصر القصّة كالحدث والشّخصيّة والحوار.
ومن الجميل والنافع جدّاً أن يُلقى الشِّعرُ للطفل إلقاءً، وأن يُغنّى له غناءً، فإنّ هذا يجذبُ الطِّفلَ، ويُدخِل في قلبهِ المُتعةَ والسُّرور، ويساعد كثيراً في إيصال رسالة القصيدة إليه، ومن الضّروري في هذا السياق تشجيع الطفل على حفظِ الشِّعر وغنائه، والإصغاء إليه وهو يقوم بذلك، ومحاولة تصحيح ما يقعُ فيه من أخطاء بأسلوبٍ لطيفٍ.
إنّ وظيفةَ الشِّعر المُوجّه إلى الطفل أن يُنمّيَ لدى الطِّفل عاطفتَهُ ومشاعره وأحاسيسه، فيجعله يُميِّزُ بين النثر والشِّعر، فإذا ما قرأ الطِّفل قصيدةً كان من المفترض أن يعلمَ أنّهُ يقرأ الشِّعرَ لا جنساً أدبيّاً آخر، فالمُهمُّ أن يُحرِّكَ الشِّعرُ في الطفل إحساسَهُ، لا بالأشياء فحسب، بل بأثر الأشياء أيضاً سواء أكانت ماديةً أم معنويّةً، والمُهمُّ أيضاً أن تُثيرَ القصيدةُ الطِّفليّةُ في داخل الطِّفل ملكةَ التّذوّق الفنّيّ، ومن ثمّ ترتقي بذوقه في هذا المجال، وتُحفّزه على الخلق والابتكار.

التاريخ: الثلاثاء2-6-2019

رقم العدد :1000

آخر الأخبار
جريمة بشعة.. ضحيتها طفلتان في "الشيخ مسكين" بدرعا أنقرة ودمشق تؤكدان وحدة الموقف ومواصلة التنسيق لمواجهة الإرهاب قطر تدعم التعافي النفسي في سوريا بمشروع نوعيّ الرئيس الشرع: تنسيق الجهود الوطنية لتحقيق تنمية شاملة دعم جهود العودة الطوعية للاجئين العائدين تعزيز الشفافية والتشاركية بحلب بين الحلقات الاقتصادية والاجتماعية ملامح جديدة لتنظيم المنشآت التعليمية الخاصة كارثة أمام أعين الجميع.. اختطاف الطفل محمد في اللاذقية الاستفادة من الخبرات العالمية لتطوير المناهج وطرائق التدريس قطع كابلات الاتصالات والكهرباء بين درعا وريف دمشق مبادرة تشاركية لتنظيف مرسى المارينا في طرطوس معدلات القبول للعام.. حرمت مئات طلاب "حوض اليرموك" "تجارة وصناعة درعا" في التجارة الداخلية لبحث التعاون المصارف الاستثمارية.. خطوة نحو تمويل المشروعات الكبرى هل ملأت المرأة المثقفة.. فراغ المكان؟ فوضى الكابلات والأسلاك.. سماء دمشق تحت حصار الإهمال المتجذر !   تحويلات الخارج تحرّك السوق..وتبُقي الاقتصاد في الانتظار تقرير حقوقي يوثق انتهاكات واسعة ترتكبها "قسد" في الرقة ودير الزور الروابط الفلاحية في حمص تطالب بإنقاذ محصول الزيتون من أزماته أردوغان: على "قسد" أن تكمل اندماجها في المؤسسات السورية