الملحق الثقافي:رشا سلوم:
سبعة وخمسون عاماً مرت على رحيل الشاعر العالمي ناظم حكمت، ومازالت آثاره خالدة نضرة تسمو وتزهو دائماً لأنها من الإنسان للإنسان، ومن أجل الكرامة والحرية، والوطن الذي عشقه حد الموت، ناظم حكمت العلامة الفارقة في الآداب العالمية جمعته علاقات وطيدة مع الكاتب والروائي السوري حنا مينة، وقد أصدر حنا مينة عنه أكثر من كتاب وعمل، كشف فيها عن محطات مهمة في حياة ناظم حكمت، ولاسيما موقفه من المرأة، ونضاله من أجل الحرية والكرامة.
وُلِدَ ناظم حكمت بمدينة «سالونيك» اليونانية – التي كانت في ذلك الوقت تابعة للسيادة العثمانية – في 15 كانون الثاني عام 1902، لعائلة أرستقراطية ثرية، بعد ولادتُه عادت أسرته إلى تُركيا، وتحديداً إلى مدينة «اسطنبول».
وكما تقول هند يونس عن تجربته الشعرية فقد استطاع في عُمر الرابعة عشرة، أن يكتُب قصيدته الثانية عن الحرب العالمية، التي تُوفي فيها خاله، وكانت تحتوي القصيدة على بعض الكلمات العربية والفارسية.
تأثَّر ناظم حكمت كثيراً بالظروف المجاورة، والتي من خلالها استطاع اكتشاف موهبته الشعرية، حتى إنه يقول ذات مرة أنه عندما كان في الخامسة عشرة كتب قصيدة عن «قطة شقيقته»، ثم عرض القصيدة على الشاعر التُركي الكبير «يحيى كمال»- والذي كان وقتها أستاذاً له في الحربية- أُعجب الشاعر «يحيى كمال» كثيراً بالقصيدة، وطلب أن يرى القطة التي يمدح فيها «ناظم حكمت» هذا المدح، لا بُدّ أنها رائعة.
لكن عندما رآها قد خاب أمله لأنها لم تكن تُشبه ولو عن قريب وصف «ناظم حكمت» لها، ومنذُ ذلك الوقت أيقَن الشاعر الكبير «يحيى كمال» وآمن بموهبة «ناظم حكمت»؛ لأنه إن استطاع تجميل هذه القطة ووصفها بأجمل الأوصاف – وهو ما لا يمت بصلة للواقع – إذاً فبكل تأكيد سيكونُ شاعراً عظيماً.
رحلة العمل
في وقتٍ ما من بدايات حياته، عمل «ناظم حكمت» بالتدريس لفترة من الوقت في مدينة «بولو» التركية، كان خلالها قريب من الشعب بطريقة تجعله على تواصل مع كل ما يحدُث لهم، ومُتابعاً لكل ما حوله، بعيداً عن تداعيات الطبقة الأستقراطية، وجد ناظم حكمت أنه من الضروري استخدام شعره للتعبير عن كل ما يحدث، عن الألم والظلم الذي يلحق بكل هؤلاء الناس ولا يجدون مفراً للهروب منه؛ لذلك أخذ «ناظم حكمت» على عاتقه مسؤولية التعبير عن الظلم المسكوت عنه وقد كان.
أخذَ «ناظم حكمت» على عاتقه دور المُناضل الصلب الذي يُريدُ الدفاع عن حق كل مواطن سواء كان تُركي أو حتى أفريقي، أراد أن يثبتُ لكل شخص بأنه يشعر به، فنجد لسان حاله يقوله: «أنا هنا، معك، كلنا نعيشُ نفس الوضع، مهما اختلفت البلد فحالة الظلم واحدة»، يُريد ناظم حكمت استخدام شعره كسلاح أو لنقل أداة يستطيع من خلالها تحقيق العدل. يقول في قصيدته «إخوتي»:
لا يغُرنكم شعري الأشقر.. فأنا آسيوي
ولا تلتفتوا إلى زُرقة عيناي.. فأنا أفريقي
في بلدي لا تُلقي الأشجار بظلالها على جذورها
كما في بلادكم أيضاً
التنين يرقد بجانب ينابيع الماء
كما في بلادكم أيضاً
ونحنُ نموتُ قبل أن نصل لسن الخمسين
كما في بلادكم أيضاً
قومي لا يعرف ثمانون منهم لا القراءة ولا الكتابة
وأشعارنا تنتقل من فم إلى فم كي تغدُو غنوة
فالشعر يتحول إلى أعلام في بلادي
وكذلك في بلادكم
فلنهب كل ما نملك من مال ومُلك وفكر وروح
ولتغدو أشعارنا طريق حريتنا الكبيرة
حُكِم على ناظم حكمت بالسجن لفترات طويلة، كان يُنقِذُهُ منها دائماً مساندة ودعم الشعراء والفنانون في مختلف البلاد له. ظلَّ الشاعر يتنقل ويهرب من حكم إلى حكم حتى عام 1938 إذ حُكِم عليه بالسجن لمدة 28 عاماً لقيامه بنشاط معادٍ للنازية.
قضى الشاعر منها حوالي 12 عاماً في سجون مختلفة، قبل أن يُطلَق سراحه بسبب موجة احتجاج عالمية للإفراج عنه، نُظمت من قبل لجنة في باريس، كان من بين أعضائها «بيكاسو»، و»بول روبسون»، و»سارتر».
كانت التهمة المباشرة الموجَّهة إلى الشاعر في ذلك الوقت هي تحريض جنود البحرية التركية على التمرُّد عن طريق قصائده التي وُجدت مع الجنود في ذلك الوقت؛ وبخاصة قصيدة بعنوان «ملحمة الشيخ بدر الدين» (نشرت في 1936)، وتحكي عن فلاح ثار على الحكم العثماني في القرن الخامس عشر، وصف «ناظم حكمت» فيها معاملة السلطات للفلاح بعد القبض عليه والظلم الذي تعرض له من محاكمة وتعذيب.
كل هذه الادعاءات لا بد من وجود رد فعل لها لدى «ناظم حكمت»، لكن تخيل كيف كان يُقاوم كل هذا؟ بالغناء، أجل كان يُقاوم كل هذا فقط بالغناء وترديد أناشيد، ومواويل للجنود والفلاحين كما يقول في روايته: «العيش شيء رائع يا عزيزي».
الرحيل
تُوفي في حزيران عام 1963 إثر أزمة قلبية حادة لم ينج منها كما حدث مع سابقتيها، لكنه لم يدع تلك الفرصة أيضاً ليؤلف لنا أبياتاً قبل موتُه، تتسابق دموعك أثناء قراءتها موضحاً مظاهر وفاته – أو كما يتخيل هو أن تكون – مُشيراً مع ذلك إلى مكان إقامته، يودع من خلال القصيدة جيرانه من نساء وأطفال ومنازل، فيقول في قصيدته بعنوان «مراسم الجنازة»:
جنازتي
هل ستخرج من باحة الدار؟
و كيف ستنزلوني من الطابق الثالث
فالمصعد لا يسع التابوت
والدرج ضيق؟
ربما كانت الشمس تغمُرُ الباحة
والحمام، فيها، كثير
ورُبَما كان الثلج يتساقط
والأطفال يُهللون
وقد يكون المطر مدراراً
على الأسفلت المبلل
وفي باحة الدار
صناديق القمامة
كما كل يوم
وإذا ما حُمِل جثماني، حسب العادة
مكشوف الوجه فوق شاحنة
فقد يسقط عليّ شيء من الحمام الطائر
فيكونُ ذلك بشارة خير
وسواء جاءت الموسيقى أم لا
فالأطفالُ سيأتون
إنهم مولعون بالجنازات
وحين يمضون بي
سترنو إلي نافذة المطبخ من وراء
ومن الشرفات
حيثُ الغسيل
ستودعني النساء
لقد عشت سعيداً في هذه الباحة
إلى درجة لا تتصورونها
فيا جيراني
أتمنى لكم، من بعدي
طول البقاء.
التاريخ: الثلاثاء9-6-2020
رقم العدد :1001