الملحق الثقافي:ديب علي حسن:
من المعروف والمتداول أن الفلسفة تسعى من أجل سعادة الإنسان، من خلال بحثها في الجوهر الذي يعني الوصول إلى أبعد مما هو ظاهر للعيان، تحلل العمق وتمضي نحو سبر أغوار المجهول والإنسان الذي يمضي نحو الكمال غايتها.
الفلسفة بمعنى آخر حب الحكمة، والحكمة بالتأكيد تسعى نحو نورانية الكون وروحانيته. تأسيساً على هذا يمكن القول إن ثمة قواسم مشتركة بين المذاهب الفلسفية كلها، ألا وهو السعي نحو جعل الإنسان، أي إنسان، أكثر حرية وقدرة على الفعل، سواء أكانت الفلسفة مادية بنزعاتها أم تميل إلى اليوتوبيا.
وحدها الفلسفة الأميركية التي تنطلق من مبدأ أنها ذات قطيعة مع الماضي كما الأمة الأميركية التي وجدت أو أوجدت بقوة الإرهاب هي أيضاً أمة القطيعة مع كل ما كان، وتسعى إلى عالم جديد تدعي أنها مكلفة برسالة سماوية لتقوم بها.
وعلى هذا فالفلسفة الأميركية ليست لخلاص البشرية، إنما الأميركي الذي يظن أن حدود وجوده من قبل الكون إلى الكون وما بعده، حدود التاريخ والثقافة والفلسفة والاجتماع، فلسفة جديدة يجب أن تكون موجودة لخدمة الإمبراطورية الجديدة، ولتدجين الإنسان الذي يجب أن يكون خادماً مطيعاً للسيد الأبيض.
من هنا نتذكر ما قاله جون ديوي «قل لي أي إنسان داجن تريده لأصنعه لك». وسكينر عالم النفس الشهير وصاحب الكتاب الاكثر شهرة «تكنولوجيا الإنسان»، نعم تكنولوجيا.. الإنسان آلة تدار وتوجه وتبرمج كي تخدم المصالح الأميركية.
من هنا كانت الفلسفة الأميركية التي نشأت. أميركا المستبدة بكل شيء ليست إلا نتاجاً لهذه الفلسفة التي يشرحها جيرار ديلودال في كتابه المهم «الفلسفة الأميركية»، وقد ترجمه إلى العربية الدكتور جورج كتورة والدكتورة الهام الشعراني وصدر عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت.
لقد ولدت الفلسفة الأميركية إنكليزية، وسرعان ما تحررت منها بمجرد تثبيت أقدامها في الأرض الجديدة. وقد مرت بمراحل كثيرة إلى أن وصلت إلى الذروة التي تظنها هي «الذرائعية». وهذه الفلسفة لا يعني أنها أميركية قومية خاصة بالأميركيين وحدهم، بقدر ما تعني ارتباط الوعي عندهم بحاجة. خاصة وقد عبر عن ذلك فلاسفتهم ولاسيما جون ديوي، وهو يرى أن على الفلسفة الأميركية أن تعي الحاجات الخاصة لأميركا والمبدأ الكامن في نجاح العقل الأميركي فيها، ولا يعني ذلك توقاً أو تمنياً لاستقلالية معينة أو التماساً لتمايز معين بقدر ما يعني الاختيار لما يراه الأصوب من أفكار تتناسب والأوضاع المستجدة في هذه القارة الجديدة.
من الحرية إلى العبودية
كما أسلفنا فإن بورهوس فريدريك سكينر تابع نظريات تعديل السلوك الإنساني ليصل إلى إنسان تقني معدل، لا يصل العقاب إليه، لأننا نحن من صممه ونفذه. وفي قراءة مالك الرشدان لنظرية سكينر في موقع التعليم الجديد يقول الرشدان حول ذلك: «إن مفهوم «الكرامة» التقليدي، والذي يشتمل على النظر إلى الناس على أنهم جديرون بالاحترام عندما يفعلون ما يستحق التقدير، هو الآخر مفهوم تهدده التكنولوجيا السلوكية. فمن وجهة نظر سكينر، فالسلوك كله تحدده العوامل الجينية والبيئية، وليس هنالك «سلوك متميز» ينبع من أعماق الشخصية المتميزة للإنسان. وبمعنى آخر، فإن ما نفعله (سواء أكان متميزاً أم لا) هو من وجهة نظر سكينر نتاج ظروف (جينية وبيئية) لا نسهم في اختيارها أو تقريرها، ولذا فمن غير المناسب إرجاع الفضل للإنسان وكأنه يتصرف كما يشاء. وقد اعتدنا تكريم الآخرين على إنجازاتهم و إرجاع الفضل لهم، والتماس تكريم أنفسنا إلى درجة كبيرة بحيث تبدو اقتراحات سكينر اقتراحات غريبة».
وفي الحالات التي يُعطى فيها الفضل أو يُؤخذ بسبب الإنجازات ليست واضحة بسهولة. فثمة أمثلة عديدة على السلوك البطولي، والفني والابتكاري والدؤوب، والذي يبدو أن التفسير الوحيد الذي يُقدم له هو وجود خاصية متميزة للبطل والفنان والمبتكر والعامل الذي يعمل بجد. أما العلم السلوكي الذي يتبناه سكينر فيهتم بدراسة الآليات التي تستخدمها البيئة لتشكيل هذه الأنواع من السلوك. فافتراضه الأساسي هو أن الظروف البيئية، مهما كانت دقيقة أو غير واضحة، تؤثر على السلوك. وإذا اكتُشفت الظروف البيئية ذات العلاقة، فإن هذه المعرفة يمكن استخدامها لتحقيق المزيد من الإنجازات الاجتماعية المفيدة. إلا أن المسألة تصبح صعبة إذا رفضنا هذا المنحى لأنه يبدو وكأنه يقلل من كرامتنا.
إن سكينر يرى أننا لا نريد حقاً اكتشاف الظروف الخارجية المسؤولة عن أفعالنا «الجديرة بالاحترام»، لأنه لا يكون باستطاعتنا أن نعزو أسباب النجاح إلى أنفسنا، ولذلك فإن شعورنا «بالقيمة الشخصية» على النحو الذي ندركه حالياً، سوف يضعف. وهذا الموقف يسد الطريق في وجه التكنولوجيا السلوكية القادرة على تحقيق المزيد من الإنجازات الإنسانية.
الخيار والعقاب
وعودة إلى رأي سكينر في العقاب، فهو يقترح إمكانية بناء مجتمع لا يحدث فيه السلوك الذي يستحق العقاب أو أنه يحدث نادراً فقط. بمعنى آخر، إذا كان للتكنولوجيا السلوكية أن تضبط السلوك بأساليب غير عقابية، فإن السلوك المرغوب فيه سيصبح شائعاً، ولن يكون هناك حاجة للعقاب.
ويشير سكينر إلى أن هذا الاقتراح لا يقبله أولئك الذين يؤمنون بحرية الاختيار والذين يقبلون بفكرة الكرامة الإنسانية المستمدة من تحكم الانسان بإنجازاته ذاتياً. وبكلمات بسيطة، فإن الاعتراض هو أنه إذا كان السلوك الجيد للإنسان نتاج الظروف البيئية، ما الذي يحدث لحريته في اختيار ما هو جيد، وكيف له أن يكرم على السلوك على نحو جيد؟
مرة أُخرى، تظهر فكرة الاستقلال الشخصي في الصورة، وتدعم واقع الأمر -بطريقة غير مباشرة- استمرارية الأساليب العقابية. ففي مجتمع يمارس العقاب، إذا تصرف الناس على نحو جيد، فذلك لأنهم اختاروا أن يكونوا جيدين وهم يستحقون التكريم. وما يتضمنه ذلك هو: «إذا لم تتحمل المسؤولية الشخصية عن سلوكك ولم تتحكم بنفسك بطريقة مناسبة فسوف تُعاقَب. إن الخيار خيارك، وإذا أحسنت التصرف فذلك يعني أن شخصيتك قوية وأنك جدير بالاحترام».
ويعتقد سكينر أن هذه الطريقة غير فعالة نسبياً لحث الناس على السلوك على نحو جيد (كما يتضح لنا بمجرد النظر إلى كل الأنماط السلوكية غير المقبولة التي يبديها الناس). وعلى أية حال، فهي تتيح لأنصار الحرية والكرامة إمكانية الشعور بالراحة، لأن الناس يبدون وكأنهم يمتلكون حرية اختيار عمل الأشياء الجيدة أو عدم عملها، وبالتالي فإن من يحظى بالتقدير هم الذين «يتخذون القرارات المناسبة». وإذا ما بدأنا بتطبيق تكنولوجيا سلوكية فاعلة وغير عقابية، وتصرف الناس على نحو جيد بسبب تنظيم الظروف البيئية، فلن يكون هناك «مسؤولية شخصية» عن السلوك الجيد، أو «الحرية» لاختيار السلوك الجيد أو «تكريم» للناس على إنجازاتهم.
التاريخ: الثلاثاء16-6-2020
رقم العدد :1002