قاطَعَ ابنُ صديقي أباه وهو يروي لي قصّةً حدثت له، وصحَّحَ الطفُلُ الكلامَ وهو يقول لأبيه: “بل كذا… فأنا شاهدتُ الأمر بعيني يا أبي…” غضبَ صاحبي قليلاً في البداية، ثُمّ ما لبثنا أن انفجرنا ضاحكين معاً، قلتُ له: “إياكَ أن تؤنّبه أو تعاقبه؛ ليتنا صادقين كهؤلاء الأطفال” ثم قلتُ للصغير: اجلس هنا إلى جانبي سأروي لك حكايةً جميلةً تُشبِهُ ما فعلتَهُ أنتَ الآن. وأنصتَ صديقي أيضاً. قلتُ: “عُرِفَ عن ملكِ إحدى الممالك شغفه بالثياب الجميلةِ الأنيقة، حتى إنّه كان يبدّل ملابسه يوميّاً، ويظهر بأجمِلِ الحُلِلِ أمام وزرائِهِ ورعيّته، وسَمِعَ محتالانِ بذلك فقصدا تلك المملكة، وحضرا بين يدي الملك وأقنعاهُ أنهما أمهر صانعي قماشٍ في العالم، لكنَّ الثياب التي يُنسجانها لا يستطيعُ رؤيتَها إلّا الناس الأذكياء والوزراءُ والضبّاطُ الجديرونَ بمناصبهم ومهامِهم فحسب، فأمرهما الملك أن ينسجا لهُ ثياباً ما ارتدى مثلها ملكٌ من الملوكِ من قبل، وعَهِدَ إلى الوزير أن يقدّم لهما المكان والخيوط وما يحتاجان إليه. وبالفعل بدأ المحتالانِ العَمَلَ بعد أن طلبا كثيراً من النقود وخيوط الذهبِ والحرير والفضّة.
وعندما اقتربَ موعدُ تسليم الثوب وكان الخبر قد شاعَ بين الناسِ في المملكة، قلقَ الملك من الأمر فأرسَلَ وزيرَهُ المخلص العجوز إلى حيث يعملُ الناسجانِ المُحتالان، لكنّه لم يَرَ على النولِ شيئاً، فدعاهُ الرجلانِ للاقترابِ من النول والنظر إلى تلك النقوش الباهرة والرسوم الفاتنة، وكانا يشيرانِ بأيديهما إلى مواضع ذلك، وفكَّرَ الوزير أنّه إن قالَ “لا يرى ثوباً فسيتهمُهُ الجميع بأنه غير جدير بمنصبِهِ، ولعلّه كذلك…”
فإذا بِهِ يهتف: “يا لهُ من ثوبٍ لطيفٍ رقيق، ما أجمل هذهِ النقوش والألوان، سأخبر الملك بأنني مقتنع تماماً بجمال الثوب”. واستغَلَّ المحتالان قول الوزير وطلبا مزيداً من المالِ والخيوط الغالية.
وبعد يومين أرسَلَ الملك وزيراً آخر إلى الرجلين، فعادَ بالخبرِ نفسِهِ عن جمال الثوب، وهو يفكّر “لعلّي لست ذكيّاً بما فيه الكفاية، ربّما لا أستحق الوظيفة التي أشغلها”.
وجاءَ يومُ تسليم الثوب إلى الملك، فأخذَ الملكُ معه الوزيرين وبعض الحاشية، وحين دخَلَ على المحتالين كانا يعملانِ بجدٍّ واجتهاد، لكنّه لم يَرَ بين أيديهما شيئاً، وهنا قال الوزيران معاً: “ألا تظنّه يا مولاي باهراً في جمالِهِ، أيودُّ جلالتكم رؤية نقوش الثوب وألوانِهِ!”.
وأشارا إلى النول الفارغ، فقد اعتقدا أن الآخرين يرونَ الثوبَ ولا شك.
وفَكَّرَ الملكُ حائراً: “ولكنني لا أرى شيئاً! ذلك فظيع! هل أنا غبي؟ ألا أصلح أن أكونَ مَلكاً؟” ثمّ علا صوتُهُ قائلاً: “يا لهُ من ثوبٍ رائعٍ. إنّه يستحق إعجابي” وبدأت الحاشية تُثني على النسّاجين وإتقانهما عملهما، وطلبت إلى الملكِ أن يمنَحَ النسّاجينِ لقب “النسّاجين النبيلين”.
في اليوم التالي كانَ ثمّة استعراضٌ كبير سيحضرُهُ الملك وسيسيرُ أمام الناس ويصعدَ منصّته.
طلبَ النسّاجانِ من الملك أن يخلَعَ ثيابَه، وألبساه الثوبَ الجديد، وسَارَ الخدمُ خَلْفَهُ يحملونَ ذيول الثوب، وسار الملكُ في الاستعراضِ أمامَ الرجال والنساء، وكان الجميعُ يثنونَ على الثوبِ، وفجأةً علا صوتُ طفلٍ يقفُ إلى جوارِ والدهِ: “الملكُ عارٍ، إنّه لا يرتدي شيئاً!”، فنهَرهُ أبوه: “استغفرُ الله، إنّه طفلٌ جاهل، لا تعيروُهُ اهتماماً” لكنّ عبارةَ الطفلِ سَرت بين الناس، وراحَ كلُّ واحدٍ يهمسُ إلى الآخر “الملكُ عارٍ، لا يرتدي شيئاً”.
اقشعرَّ جسدُ الملك إذ علِم أن الناسَ كانوا على حقٍّ، ولكنّهُ فكَّرَ: “عليَّ الصبر حتى انتهاء الاستعراض”، وتابَعَ سيرَهُ باسماً والخدم من خلفِهِ يحملونَ ذيول الثوب”.
ضحكَ صديقي، وسألني طفلُهُ باسماً: “يا عم، من حكى لك هذهِ القصّة الجميلة. أجبتُهُ: “حكاها لي كاتبٌ عظيمٌ اسمُهُ هانس أندرسون وسأحضرُ لك مجموعة قصصٍ من إبداعِهِ”.
إضاءات- د. ثائر زين الدين