ثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
لم تخلُ احتفالية يوم الاستقلال الأميركي من تبجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بما يسمى “عدالة” أميركا والتفاخر بتقدمها العلمي، في الوقت الذي كانت فيه حشود من الشعب الأميركي ترد على هذه العدالة المزيفة باحتجاجات غاضبة على جريمة مينابوليس العنصرية، بينما كانت أرقام الإصابات والوفيات المرتفعة بفايروس كورونا تدحض ادعاءاته بالسيطرة على الوباء وقرب اختراع علاج له.
فالرئيس الأميركي المغرور والمأزوم على مسافة أشهر قليلة من خوض انتخابات رئاسية بحظوظ ضعيفة وجد الحدث مناسبة فريدة للهجوم على خصومه الديمقراطيين في الداخل متعهداً بهزيمة “اليسار الراديكالي”، والفوضويين، ومثيري الشغب، والمدانين بأعمال النهب والسلب” حسب زعمه، كما لم يخلُ خطابه من الهجوم على الصين مهدداً إياها بالخضوع لمحاسبة كاملة بسبب تفشي وباء كورونا.
المفارقة في خطاب ترامب “الترويجي” والدعائي ــ والانتخابي بشكل رئيسي ــ أنه تجاهل الارتفاع القياسي في حالات الإصابة بالوباء ومحاولة الحديث عن إنجازات في هذه المواجهة، لكنه لم يشر إلى قرابة الـ 130 ألفاً من الوفيات في الولايات المتحدة بسببه، وكذلك قيامه بتوبيخ المتظاهرين واتهامهم بالمخربين، بعد أن حطموا تماثيل قادة أميركيين يمثلون رموزاً للعنصرية في الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للعنصرية.
عند الحديث عن عدالة أميركا حالياً قد تكفينا جريمة مينيابوليس العنصرية لنكتشف طبيعة هذه العدالة وجذورها، ولكن لا بد من العودة لبدايات تأسيس الولايات المتحدة الحالية التي قامت على أساس إبادة السكان الأصليين من هنود حمر وغيرهم، واستعمار البلاد واستيطانها من المستعمرين الأوروبيين، وما تحطيم تمثال كريستوف كولومبوس” المستكشف الإيطالي المشهور” ورميه في المحيط خلال الاحتجاجات الأخيرة سوى تأكيد على رمزية هذا الاسم في الجرائم العنصرية التي شهدتها البلاد من المستعمرين الأوروبيين إبان اكتشافها واستعمارها من الأوروبيين، بحيث كانت جريمة مينيابوليس وقبلها الكثير من الجرائم المشابهة بحق المكونات الملونة للشعب الأميركي وخاصة السود امتداداً لهذه العنصرية التي مارسها البيض على امتداد أكثر من 150 عاماً من استعمارهم لهذه الأرض.
وعند الحديث عن عدالة أميركا أيضاً لا بد من التذكير بغزواتها وحروبها الخارجية، حيث تعتبر أميركا الإمبراطورية الأكثر خوضاً للحروب في تاريخ الإمبراطوريات المستعمرة، مع كل ما يعنيه ذلك من دمار وويلات وسقوط ضحايا أبرياء في هذه الحروب وانتهاكات بحق الإنسانية، ويكفي أن نذكر حربين ــ حربي العراق وأفغانستان ــ وثلاثة معتقلات أميركية مارس فيها العسكر الأميركيون كل أشكال التعذيب والقهر والإذلال بحق المعتقلين دون محاكمة، حتى يتعرف العالم على هذه العدالة المزيفة، والمعتقلات لمن لا يعرفها هي سجن باغرام بأفغانستان وسجن أبو غريب في العراق ومعتقل غوانتنامو بجزيرة كوبا، إضافة للمعتقلات “الطائرة” ــ على متن الطائرات الأميركية ــ وهو ابتكار أميركي جديد فضحه الإعلام الغربي خلال حربي العراق وأفغانستان.
ومن علامات العدالة الأميركية التي يتبجح بها ترامب أن أميركا لا تعترف بالمحاكم الدولية المعنية بجرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية، وقد وقع ترامب نفسه مؤخراً قانوناً يمنع محاكمة الجنود الأميركيين خارج أميركا، أو مثولهم أمام هذه المحاكم، رغم الجرائم والانتهاكات الفظيعة التي قاموا بها، وإذا ما تمت محاكمتهم أمام المحاكم الأميركية فسرعان ما يطلق سراحهم أو تصدر بحقهم عقوبات بسيطة، كدليل أكيد على أن ارتكاب الجرائم الوحشية هو جزء من السياسة الأميركية بحق الأمم والشعوب الأخرى، وقد يسأل سائل ما العدالة التي طبقت بحق الرئيس السابق هاري ترومان بعد قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما الذريتين، وما العدالة التي طالت رؤساء أميركا الذين شاركوا بالحرب الكورية وحرب فيتنام اللتين ارتكبت خلالهما أبشع الجرائم، أو العدالة التي طبقت على المجرم جورج دبليو بوش وهو المتهم بارتكاب جرائم حرب في العراق وأفغانستان، وقام بغزو العراق بناء على تقارير وذرائع واهية ثبت بطلانها فيما بعد.
وما العدالة التي طالت دونالد ترامب بعد غزوه الأراضي السورية في الجزيرة السورية وسرقته للنفط والقمح والثروات وتدميره للمدن والقرى وقتل طائراته للمدنيين الأبرياء بذريعة قصف داعش الإرهابي؟ ما العدالة التي طالته وهو يحاصر الشعب السوري بلقمة عيشه تحت عنوان (قيصر) الإرهابي؟ وما العدالة التي طالت جنوده الغزاة وهم يقتلون بدم بارد الأطفال والنساء والشيوخ في الرقة التي دمرتها طائرات تحالفه المزعوم لمكافحة الإرهاب عن بكرة أبيها ودمرت معها الكثير من القرى والمدن السورية؟.
ولعل الأكثر غرابة في تاريخ أميركا هو أن الرئيس الأكثر ارتكابا للجرائم هو الذي يحظى برضا اللوبيات ومراكز القرار الحاكمة داخل أميركا ويتم التجديد له أوتوماتيكياً بعيداً عن خيارات الشعب الأميركي واستطلاعات الرأي، ولعل وجود ترامب حالياً في البيت الأبيض حالياً وسعيه لولاية ثانية يعد التعبير الأكثر فظاظة عن “العدالة” الأميركية، ولاسيما أن بلاده تعاني ارتفاعاً قياسياً في إصابات وباء كورونا، وتظاهرات عارمة ضد العنصرية، وانخفاضاً حاداً في الاقتصاد، إضافة للخصومات التي افتعلها ترامب مع الكثير من أصدقاء أميركا وحلفائها والأزمات التي تسبب بها على مستوى العالم والتي عرّت السياسة الأميركية وأساءت كثيراً إلى سمعة واشنطن.