درس المدرّس

في كلية الفنون الجميلة بشارع بغداد، كان يطيب لفاتح المدرس أن يجلس وراء الواجهة الزجاجية الكبيرة لمقصفها، مستمتعاً بشمس الشتاء وبالأحاديث التي تدور بينه وبين طلابه حول مواضيع الفن والثقافة والحياة. وصادف أنه أثناء إقامة معرض متألق له أن نشر طالب قليل الشأن مقالة صحفية تنضح بهجوم جاهل وكريه على المعرض، وعلى تجربة أستاذه برمتها. يومها خشينا من ردةِ فعلٍ تطيح بجمال الجلسة الصباحية في الشمس الدافئة، غير أن تعبير وجه المعلم لم يكن مختلفاً، حتى اعتقدنا أنه لم يعلم بأمر المقالة الرديئة، ودهشنا حين عرفنا أنه قد قرأها..! ودهشنا أكثر حين برر فعل كاتبها بالقول: «مسكين يريد أن يلفت الانتباه إليه..»!!

لم يكن ما قاله مجرد تعليق ذكي وإنما موقف حقيقي يليق بفنان كبير، فلم يتخذ أي موقف سلبي من الطالب على امتداد سنوات دراسته في الكلية. كان فاتح المدرس بمقدار ما هو على استعداد لتقبل النقد الجاد، على استعداد مماثل للترفع عن أية كتابات سطحية وضحلة.

في الفترة ذاتها، كانت له زاوية يومية طريفة في صحيفة «تشرين» يحلل من خلالها تواقيع القراء. تحفّظ بعض المثقفين عليها، ورأى بعضهم الآخر فيها جزءاً من خصوصية فاتح وطرافة سلوكه. أما نحن طلابه المؤمنون به فكنا نبحث عن تفسير منه وكنا سنقبله أياً كان. وفي إحدى صباحات مقصف الكلية تحلقنا حوله نسأله الجواب فحدثنا عن العلاقة بين خط الإنسان وسلوكه ومشاعره وطريقة تفكيره، فلما سألناه عن وجه الإنسان قال إنه كتاب مفتوح. في شرفة المبنى خلف الواجهة الزجاجية كانت طالبة تجلس مقابله، فبدأ يشرح فكرته مستشهداً بما يقوله وجهها. كانت مفارقة طريفة ونحن نتخيل حالها وهي ترى أستاذاً وبضعة طلاب يحملقون بها ولا تستطيع سماع الحديث الدائر عنها.

كثيراً ما كان يستوقف فاتح تفصيل صغير في غمرة انشغال الآخرين بموضوع آخر، أو شيء يبدو مألوفاً. كان يعشق الطبيعة والأرض والأشياء العفوية. ومرة حدثنا ونحن على أبواب التخرج عن سحر البادية مقترحاً علينا السفر لتدريس أبناء البدو واكتشاف جمال المنسوجات التي يصنعونها. كانت له على الدوام تعابيره الخاصة وطريقته الخاصة في السرد وفي التعامل مع الآخرين.

وفي الحالين كان لها خصوصية المدرّس..

تكمن مأساة فاتح المدرس وبطولته في آنٍ معاً أنه عاش في وسط تتسع فيه الأمية التشكيلية لتطول حتى بعض التشكيليين، فكان عليه أن يواجه سوء فهم تجربته، وأن يلقي خلف ظهره الأحاديث التي ترددها الفئات مدعية الثقافة، والكسولة والمحكومة بعقدة التغريب الثقافي، التي إما أن تضع تجربته في إطارات لا تتفق مع قامتها، أو أن تردد بحكم مصالح صغيرة، أو بفعل تكوين (ثقافي) مبني على النميمة، مقولاتٍ تبدأ من الأحكام القاطعة بنضوب التجربة، وصولاً إلى تفسير استمرار المدرس بالعطاء الفني بأنه غاية تسويقية. في السنوات الأخيرة من حياته حُكيَ عن أنه يرسم لأجل الربح المادي. وإذا كان الحديث عن التكرار يجد تفسيره في حقيقة أن تجربته بلغت الذروة قبل سنوات عديدة، مثله في ذلك مثل كثير من الفنانين الكبار الذين تكتمل تجربتهم قبل اكتمال رحلة حياتهم، فإن تفسير الاستمرار في الإنتاج الفني يجب أن يرتقي عن مفاهيم السوق إلى سوية إدراك السر الذي يدفع الفنان المبدع إلى العمل بكثافة أواخر حياته. ولعل أفضل ما يقال في ذلك اعتذار بيكاسو عن حضور حفل تكريمي أقامته الحكومة الفرنسية بمناسبة عيده التسعين مكتفياً بإرسال برقية تقول: «أيها السادة لم يعد لدي وقت أضيعه في أي مناسبة».

سعد القاسم

 

آخر الأخبار
دمج الأطفال بأنشطة حسية ولغوية مشتركة تعزز ثقتهم بأنفسهم     إغلاق مصفاة حمص وتحويل الموقع لمستشفيات ومدارس        لبنان في مرمى العزلة الكاملة.. "حزب الله" يسعى وراء مغامرة وسوريا ستتأثر بالأزمة    وزير الطاقة: تخفيض أسعار المشتقات النفطية لتخفيف الأعباء وتوازن الاستهلاك     الرئيس الشرع: الإدارة الأميركية تتفق مع هذه الرؤية   "مجلس الشيوخ" الأميركي يقرّ اتفاقاً لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد  درعا تعيد صوت الجرس إلى ثلاث مدارس   أميركا تخطط لبناء قاعدة عسكرية ضخمة قرب غزة بقيمة 500 مليون دولار  وسط صمت دولي.. إسرائيل تواصل انتهاكاتها داخل الأراضي السورية بهذه الطريقة  تعاون مرتقب بين "صناعة دمشق" ومنظمة المعونة الفنلندية  "التربية والتعليم" تعزز حضورها الميداني باجتماع موسع في إدلب 80 فناناً وفنانة في مبادرة "السلم الأهلي لأجل وطن"  خسائر بأكثر من سبعة ملايين دولار بسبب فساد في القطاع العام     ترامب يحذر الشرع من إسرائيل:  هل بقيت العقبة الوحيدة أمام سوريا؟   تنفيذ طرق في ريف حلب ب 7 مليارات ليرة  الكهرباء تكتب فصلاً جديداً في ريف دمشق.. واقع يتحسن وآمال تكبر السكك الحديدية السورية.. شريان التنمية في مرحلة الإعمار  بمشاركة سوريّة.. الملك سلمان يتحدث في مؤتمر "من مكة إلى العالم" جودة الخبز ورفع الجاهزية على طاولة التجارة الداخلية  "مهرجان تسوّق حلب".. عودة الألق لسوق الإنتاج الصناعي والزراعي