لم نكن نتصور يوماً من الأيام أننا سنقع مرة أخرى تحت الاحتلال بوجوهه الجديدة، اعتقدنا أن الاستعمار أصبح من أفعال الماضي ومرويات التاريخ وأرشيفه، وأننا نتجه نحو دولة قومية عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، وأن العصر الذهبي للأمة العربية أصبح قريب المنال، وأن الدولة القِطرية محطة استراحة في سكة الطريق إلى الوحدة، تكرست في مخيلتنا صورة المستعمر الإنكليزي والفرنسي والإيطالي، وفي ذاكرتنا الجماعية قضية التتريك والسلطنة العثمانية التي جثمت على صدورنا أربعة قرون ونيف، واعتقدنا أن الثورة العربية الكبرى التي انطلقت عام 1916ستنتهي بنا إلى مملكة عربية تضم الحجاز وبلاد الشام والنيل، لتكون نواة للحلم العربي الجميل، وكم لهجنا ودار في حناجرنا “بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان”.
أمام هذه اللوحة الرومانسية الجميلة نرى واقعاً تتكسر عليه الأحلام، وتكاد تتحطم المشاعر من هول المشهد الفرنسي والبريطاني والأميركي والتركي ينصب خيامه العسكرية وسط بيوت العرب، والصهيوني المجرم يبتلع الأرض العربية في فلسطين والجولان، وتتفتح شهيته لقضم المزيد، والعرب بين صامت وشامت ومتآمر، سورية التي تأسست فيها أول امبراطورية عربية في التاريخ، وامتدت من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، وكان العالم كله يضبط توقيته على إيقاع دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، وقلب العروبة النابض أبداً، والتي انطلقت منها فكرة الثورة العربية الكبرى، وكانت الأساس في إقامة أول وحدة عربية في القرن العشرين دمشق التي لم توقع صكوك الذل مع العدو الصهيوني، ووقفت في وجه تيار الاستسلام والتطبيع والتركيع، وانحازت إلى الفعل المقاوم، ورفعت لاءاتها في وجه غورو القرن الواحد والعشرين كولن باول وخاطب قائدها أعراب أميركا وغربانها: تملكون المال ونملك الكرامة.. وقال وفعل؟.
دمشق عز الشرق واجهت وتواجه أشرس عدوان عرفه التاريخ، سخرت له كل أدوات الحروب القذره من إرهاب دموي وإرهاب إعلامي واقتصادي لجهة كسر عنفوانها، وتحطيم إرادة شعبها، وانتزاعها من عروبتها لتطوى صفحة العروبة والمقاومة وتصبح حديث ذكريات أو أضغاث أحلام؟.
وعلى الضفة الأخرى تقف شقيقات دمشق بغداد والقاهرة الأولى تلملم جراحها وتسعى لاستعادة ما تبقى من جسد مكلوم وتئن تحت وطأة الخطب وثقل التبعات، تدافع عن تاريخ يسرق، وهوية تستباح، وذاكرة تمحى، أما قاهرة المعز فيتكالب عليها الأعداء من صاحب الطربوش العثماني القادم من الغرب عبر البوابة الإخوانية أو الساعي لخنقها أسد يهوذا الأثيوبي، عبر ما سمي سد النهضة الممول خليجياً وإسرائيلياً، وشرقاً عبر داعش وأخواتها صنيعة المطبخ الأميركي الصهيوني، ولا تقف الأمور عند هذه الحدود من تراجيديا العرب فثمة لعاب يسيل وشهية تتفتح في أكثر من مكان من بيوتات العرب التي يبدو الكثير منها من دون أبواب وإن أغلق بعضها فثمة نوافذ مفتوحة؟.
أين المفر؟ التاريخ وحقائقه هما من لا مفر منهما، فلا خيار إلا خيار المقاومة، ورفض الواقع، والانحياز إلى السيف الذي هو أكثر إنباء من الكتب، ولا مخرج إلا بوحدة الصف والاحتكام للعروبة، لأنها شاطئ الأمان الوحيد وخريطة الطريق إلى الكرامة، وإلا نعي وشهادة وفاة تنسب إلى مجهول؟.
إضاءات – د. خلف المفتاح