ثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
دخل المشهد الليبي مرحلة جديدة من التوتر والتعقيد بعد احتدام المعارك والمواجهات الدامية بين الجيش الوطني الليبي الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر وقوات ما يسمى حكومة الوفاق المدعومة من تركيا في العديد من المناطق ولا سيما حول مدينتي سرت والجفرة الاستراتيجيتين، واتساع رقعة الخلاف بين الطرفين فيما يتعلق بإيرادات النفط الليبي، حيث لعب التدخل التركي السافر في الشؤون الليبية وقيام أنقرة بدعم حكومة السراج التي تقاتل بمليشيات ومرتزقة إرهابيين دوراً سلبياً في تأخير التوصل إلى اتفاق يضع حداً للحرب المستمرة منذ أكثر من تسع سنوات.
فبينما كان الجيش الليبي قبل أشهر على أبواب طرابلس بانتظار تحريرها من ميلشيات الإخوان والقاعدة دخل النظام التركي مشفوعاً بغض نظر وتواطؤ غربي على خط الحرب وقدم دعماً استثنائياً مكن حكومة السراج من التقاط أنفاسها واستعادة توازنها، حيث بدا رأس النظام التركي، الذي تعاني مشاريعه الاستعمارية في سورية فشلاً مزمناً بحاجة أكثر لتوسيع رقعة تدخله خارجياً، والأكثر رغبة في الحصول على مزيد من النفوذ العسكري والسياسي في غرب ليبيا، ولا سيما أن وراء ذلك ثروات نفطية هائلة قد تنقذ الاقتصاد التركي من ركوده، إضافة إلى ما تشكله ليبيا بالنسبة لأردوغان كبوابة لاستعادة جزء من حلم “الدولة العثمانية البائدة” من الزاوية الإفريقية، وقد وجد في حكومة السراج الإخوانية ممراً مناسباً لإيقاظ هذا الحلم، فجمع كل ما لديه من مرتزقة وسلاح وزجهم بالصراع الليبي لوقف انتصارات الجيش الوطني الليبي، في غفلة غير مبررة من دول الجوار الليبي العربية ولا سيما مصر وتونس والجزائر.
وقد أكدت الأسابيع الماضية من المعارك الطاحنة بما لا يدع مجالاً للشك أن رأس النظام التركي مستعد للذهاب حتى إلى حرب إقليمية طويلة الأمد من أجل تثبيث أقدامه في ليبيا أو في غربها على الأقل، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك نقله آلاف المسلحين المرتزقة ودعمهم بالأسلحة والضباط وعناصر المخابرات التركية لاقتحام مناطق عديدة كانت تحت سيطرة الجيش الليبي، وهو بذلك يؤكد أن عينه على أهم وأغنى مناطق الوسط الليبي الغنية بالنفط والغاز.
وإمعاناً في محاولته فرض بلاده كقوة إقليمية لها كلمتها مستفيداً من الصمت الدولي المريب لم يتردد أردوغان في المخاطرة باستفزاز فرنسا التي لها أطماعها أيضاً في ليبيا عندما حذر سفينة حربية فرنسية من إطلاق النار عليها مقابل الشواطئ الليبية التي تغص بسفنه الحربية، وكانت السفينة تعمل ضمن مهمة الناتو الهادفة إلى منع وصول الأسلحة إلى ليبيا المقسمة، وكذلك الحد من الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية إلى أوروبا.
تؤكد المعطيات القادمة من ليبيا والتي تكشف تباعاً من خلال تواتر الحديث عن النفط وإيراداته وتقسيم الحصص أن دوافع أردوغان للتدخل في ليبيا لا ترتبط بالعلاقات التاريخية بين البلدين أو الحرص على الحقوق الشرعية لليبيين كما يدعي، لا سيما أنه لا يقيم وزناً لمثل هذه الحقوق داخل تركيا، فليبيا بمساحتها الكبيرة وثرواتها الهائلة تعتبر مدخلاً لأردوغان من أجل اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي في الدول المغاربية والعمق الإفريقي وحوض المتوسط عموماً، وبالتالي فإن دولة بمساحة جغرافية كبيرة وذات غنى نفطي كليبيا تعتبر كنزاً لحكومة تعاني اقتصادياً كالحكومة التركية.
فتركيا تستورد سنوياً ما يعادل 40 مليار دولار من النفط والغاز، ورغم النهب الذي تعرضت له احتياطات ليبيا المالية خلال فترة حكومة السراج، فإن ما يزيد على 80 مليار دولار من الأموال الليبية غير الخاضعة للتجميد أو العقوبات ما زالت تحت إمرتها، وبالتالي من الممكن أن تنتقل هذه الأموال إضافة إلى إيرادات النفط والغاز إلى عهدة تركيا إذا ما نجحت مخططاتها في ليبيا.
هذه المعطيات تجعل من ليبيا مركزاً لصراع نفوذ ومصالح بين القوى الدولية الكبرى، وإذا كان المتضرر الأكبر من هذا الصراع هو الشعب الليبي بالدرجة الأولى فإن دول الجوار الليبي العربية ستتلقى بعض الأضرار الفادحة لا سيما وأن أردوغان الطامح ذو جذور عثمانية ولن يتوقف عند حدود ليبيا، حيث شبح الإخوان المسلمين يخيم على جزء من المشهد المصري والمغاربي، وبالتالي لا بد للدول العربية من الحضور القوي في المشهد الليبي للحيلولة دون تجذر النفوذ التركي داخل ليبيا.
ولعل وجود دعم شعبي ليبي كبير للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر ولحكومة بنغازي سيساعد كثيراً في إفشال طموحات أردوغان، وهذا مرهون بمواقف الدول الكبرى حيث تبدو روسيا أقرب لمصر في حين تنقسم الدول الأوروبية على بعضها تجاه الصراع فبعضها قلق من الحضور التركي وبعضها يبدي لا مبالاة أقرب للتواطؤ، أما الموقف الأميركي فلا يمكن أن يؤمن جانبه، وهو معني بتأجيج الصراعات في كل المنطقة وتطويل أمدها لاستنزاف خصومه وفرض شروطه وإملاءاته واستثمار الصراعات بطرق مختلفة، إذ لا يوجد أخبث من الأميركيين في هذا المضمار، ولهذا من الصعب تبين حقيقة الموقف الأميركي من الصراع فتارة يدعم المشير حفتر المدعوم من مصر والإمارات العربية المتحدة وتارة يمالئ حكومة السراج ونظام أردوغان، ويبدو أن واشنطن غير قلقة من احتدام الصراع وتطوره شرط ألا تتضرر مصالحها في المنطقة.