لا أظن أن أحداً يمكنه التنبؤ بالذي سيأتي.. هل ستعود الكرة الأرضية إلى دورانها المعتاد أم أنها ستغير مسارها كما تغيرت مسارات حياة البشر جميعاً؟
هل سنتأقلم مع هذه التحولات العميقة التي أصابت حياتنا المادية والاجتماعية والعادات والتقاليد والثقافة والمعرفة، أم سنتابع في احتجاجنا ورفضنا وشعورنا بالإحباط لأننا عاجزون تماماً عن اللحاق بركب الحياة الجديدة؟
ماذا فعلت بنا كورونا؟
لم تستطع الحرب خلال عشر سنوات أن تغير فينا ما غيرته (كورونا) في عدة شهور؟ لقد ساءت أحوالنا النفسية وملأ الرعب كياننا.. ابتعدنا عن الأصدقاء والأحباب، هجرنا السوق وهجرنا اللقاءات والسهرات وحفلات القهوة مع الجيران.. ومع ارتفاع الأسعار صار المواطن يخاف من الضيف وينزوي بحجة كورونا.. ولكن إلى متى؟
الأطفال هجروا المدارس والكتب وبات هاجسهم الألعاب الإلكترونية الضارة التي – على ما يبدو – لا بد منها، فهي تلهي الأطفال وتضبط إيقاعهم في المنازل الصغيرة الضيقة التي لا تحيط بها حدائق ولا ساحات، وتريح الاهل لساعات من النق والنقيق والطلبات والمشاجرات، فضلاً عن الضيق النفسي من الجدران التي تلتف على الشخص وتخنقه.. لذلك حتى الكبار وقعوا في غرام الهواتف النقالة كي يمرروا الوقت ويتواصلوا مع الآخرين ويطلعوا على آخر أخبار هذه الأرض المهددة بالانفجار في كل لحظة.
فهل تتحقق نبوءة شعوب المايا بأن الأرض إلى زوال وأن العالم سينتهي قريباً؟ ولماذا نستغرب من هذه الأفكار وندحضها بكل إصرار مستنكرين هذه الأقوال، لكن لو رجعنا إلى التاريخ وبحثنا في تشكيل الحضارات والامبراطوريات لاكتشفنا أنها زالت بطريقة من الطرق التي لم يتوقعها شعبها أو حكامها.. فكيف زالت ممالك وحصون وانقرضت شعوب وكيف عادت الأرض إلى بدئها كل فترة من الزمن ربما لتعيد ذاتها وتجدد عناصرها وتأتي بشعوب تعمرها بطريقة مختلفة عن سابق سكانها.. وربما من المفيد أن نتذكر الفراعنة وعظمة حضارتهم وإنجازاتهم العلمية والعمرانية والزراعية والتي عجزت الحضارة الحديثة بكل ما أوتيت من علم وابتكار ومعرفة من حل شيفرة التحنيط وفك لغز بناء الأهرامات ومعرفة أبوابها الرئيسية.. كذلك حضارة المايا والهنود الحمر وحضارات كثيرة كلها انهارت، فتعرت الأرض وعادت إلى عرجونها القديم، فأي حضارة نتغنى بها اليوم وأي حضارة ستأتي بعد كورونا؟ وأي بشر سيعمرون الأرض من بعدنا؟
هل هم من سكان الأرض أم من المريخ، أم أن هناك شعوباً أخرى تنتظر دورها في بناء الأرض وتعميرها من جديد بعد أن دمرناها وقتلنا ولوثنا أرضها وسماءها ومياهها، ولم نترك موبقة بحق كرتنا الأرضية إلا وقمنا بها؟ لذلك هي تموج وتهتز غضباً واستنكاراً ورفضاً لنا، إذ لم تعد قادرة على تحملنا لأننا بالأساس لم نعد نحن قادرين على حمل أنفسنا، لقد تغيرت كل الظروف المحيطة بنا فتغيرنا، صار قتل الإنسان أكثر سهولة من قتل طير.. وصار السطو والاعتداء من قبل الدول القوية على الدول الفقيرة أمراً عادياً بحيث يأكل القوي الضعيف.. فشريعة الغاب معمول بها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأمام أعين المجتمع الدولي الذي يظل صامتاً حيادياً أو أعمى تماماً وكأنه غير معني بالقوانين الإنسانية والأخلاقية.
لقد تعبت الأرض منا.. وتعبنا من أنفسنا، قامت حروب وطغت دول وتجبرت شعوب وامتلأت الأرض بالدماء ولم نكف عن الطغيان، لذلك جاء الفيروس السريع.. الساحق الماحق الذي لا تصده حصون ولا أسلحة فتاكة ولا محيطات شاسعة ولا دماء زرقاء أو خضراء ولا سجادات حرير أو حصير.. الكل أمامه سواء.. فهل سيقف البشر لحظة وينظرون إلى الوراء ثم إلى الأمام ليروا ماذا فعلوا بهذه الأرض وبأنفسهم؟ عندئذ هل سنجد من يعتذر لهذا الكون عما فعلت يداه؟ هل سنجد من يندم ويغير من بطشه وسلوكه وينادي (يا ويلاه)؟
لا أظن الإنسان سيتعظ وإلا كان اتعظ ابن النبي نوح حين جاءه الطوفان وظل على نكرانه ولم يركب السفينة.
الطوفان قادم لا محالة، ولكن هل ستنجو السفينة من الاختراق؟
أنيسة عبود