الثورة أون لاين:
مرّت أمس ذكرى وفاة شاعر العرب الأكبر بدوي الجبل بصمت، وهدوء، وكأنّه لم يكن قيثارة آلامهم، وصوت الحقّ الذي صدح بكلّ جرأة بوجه الظلم والطغيان، لا نريد أن نقف عند محطّات في حياته، فهي كثيرة ومعروفة، ولكن من الجميل أن نستعيد الكثير مما باح به في حواراته التي نشرت، وكان منها حوار أجراه الملحق الثقافي لجريدة الثورة معه، ونشر بتاريخ 11-3-1976م.
في هذا الحوار على طوله يجب أن يبقى ماثلاً بين أيادي القرّاء، فعظماؤنا الذين ننساهم في الكثير من الأحيان، لا بدّ أن نستعيد الكثير مما قالوه .
القلب، لا.. مثل الكنز عميق، وواسع كما الفضاء، في سعته وعمقه مفتوح، من الحنان يمكنك أن تأخذ ما تشتهي… «عندي كنوز حنان لا نفاد لها» ومن الشمس وألق النجوم أيضاً.
العناقيد ناضجة… فمن أيها تعتصر النبيذ؟ من أيها تقطف السكر؟ احذر! أنت في حضرة الشعر الأقدس! دع الكروم ذاتها تمنحك العنب.. فقط، افتح دمك، وانتظر.. «لا» تقول لك الكروم.. «مدّ أصابعك، نتحاور..» حسناً! من أين تبتدئ الأصابع رحلتها في عناقيد الشعر؟!.
من أين. يا بدوي الجبل، ندخل؟!
في الذاكرة تاريخ من الشعر: على غلافه الأوّل ملك في الصحراء ضليل، على غلافه الأخير بدوي يطلّ من قمة الجبل.. بدوي! إنما في ترف أناقة القرن العشرين.. تحت الثوب عبق الرمل، تحته النول الذي غزل ديوان الشعر العربي.. تقول لنفسك أيضاً: « فلنتوقف، ما استطعنا، في أفق هذه الخاتمة».
في الحوار مع بدوي الجبل لا بدّ أن تتجاهل مسألة ما بعد تلك السلالة إنه لا يعترف بالدم الجديد، دع الخلاف، إذن، وادخل مع البدوي في العباءة الرحبة.
من أين، يا بدوي الجبل، ندخل؟!
-بدوي الجبل.. تبدو رغم الزمن شاباً، أهذا سرّ الشعر فيك؟
*هذا سر الله!! أنا أعيد كلّ شيء إلى الله!
-وأنت.. ما دورك؟
*لا أدخن، لا أشرب، لا أسهر، حتى أيام كنت سياسياً.. منذ خمسين عاماً وأنا أعيش هذا النظام.
-وتمارس الرياضة أيضاً؟
* أمارس المشي السريع صباح مساء، تلك صارت عادة!
– لن نتحدث طويلاً في الزمن.. إنما الشاعر الذي قال: (لا تسأليني عن الخمسين ما فعلت يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه)
ماذا يقول الآن؟
سرّي شباب قلبه وهوى
وجدوة في ثنايا قلبه بدد
الشاعر لا يشيخ!!
– هذا ما عنيته بسرّ الشعر فيك.
* أنا أظنّ أنّ الشاعر يأتي بعد النبي مباشرة!
– إنما أنت القائل:
نحن الذين اصطفاهم من أحبته
هذا يعني أنك تضع الشعراء في مرتبة أعلى: أليسوا ندامى الله؟
* ذلك قول آخر!
– ولكنه من شعرك؟!
* صحيح.. ولكن الشاعر يأتي بعد النبي!
– ألا يصل الشاعر مرتبة النبي؟ إنّ بين النبوة والشعر صلة دم.. طبعاً إذا أخذنا النبي بالمنظور غير الرسولي.
*أنا لا آخذ النبي إلّا بصفته الدينية.
– النبوة كشف، والشعر كشف، تلك هي الصلة بينهما فيما أظنّ؟
* لا.. إنّ الشاعر لا يصل مرتبة النبي!
– إذن.. فـ «نحن الذين اصطفاهم»…؟!
* ذلك خيال شاعر!
– لا تؤمن به؟
* أحسّه ولا أؤمن به!
– أحياناً يكون الإحساس أكثر صدقاً من الايمان.
* .. الايمان أرفع من الإحساس.
– بالدرجة العقلية فقط، بالدرجة الحياتية يكون الحسّ أصدق.
* يكون أقرب لا أصدق.
– إلى أيّ مدى يقترب الشاعر من النبي؟
* أنت شاعر تعرف ذلك.
– أريد رأيك؟
* النبي يوحى إليه لهداية البشر، والشاعر يوحى إليه لتزيين الدنيا.
– هذا الوحي.. من أين يأتي الشاعر؟
* من الله! أحياناً يأتي الشاعر بقطعة من الشعر، هو نفسه بعد أن يكتبها لا يعرف من أين جاءت!
– أتسمي ذلك لحظة الإشراق أو لحظة الخلق الفني؟
* الإشراق!
– الإشراق أو الكشف؟
* الكشف!
– ودور الشاعر؟ أعني ذلك المخزون النفسي والفكري والعاطفي.. تلك التجربة الناضجة.. أليس لها دور في عملية الكشف؟
* هذا الكنز في نفس الشاعر، لا يعلم أحد من أين جاء، أهو من الله؟ أم تجمّعت فيه الخفايا والأسرار؟ أنا شخصيّاً أعتقد أنه إلهام، أقول هذا عن الشعر الأصيل، الشعر الذي ليس بأصيل، هو نوع من ترهات الحياة!
– ما الشعر الأصيل؟
* أنت شاعر لا توجه هذا السؤال لي!
– نتعاون معاً على تعريفه.
* الشعر الأصيل هو ما يدخل إلى أعماق النفس الإنسانية، ويجلوها واضحة، شاعرة، طروبة، نشوى، وسامعها يطرب بها، لكنّه لا يعرف أسرارها كلّها، إنّه لا يعلم النشوة التي يبتدعها.
– بمعنى ما، الشعر الأصيل أو الحقيقي، هو الذي يستلهم العالم ويدخل أسرار الكون وجوهر الأشياء ثم يمتصها ويحوّلها إلى طاقة شعرية.
* هو الذي يذلّل أسرار الكون ويعطّرها.. ويعطّر النفس الإنسانيّة والذوق الإنساني، هذا هو الشعر. الشعر ليس موسيقا فقط.. بل عطر ونغم إلهي.
– أو عطر أرضي.
* عطر إلهي ونغم إلهي!
– الأرض أيضاً لها حجمها في الشعر. أليست الأرض جزءاً من عالم الشاعر؟
* لا ريب.. إنّما ليست الأرض دنيا الشاعر فقط، هي دنيا على حافة دنيا الشاعر. دنيا الشاعر رابضة وغير معروفة، قد يكون هذا الرأي غير صحيح، لكني أحسّه!
– تبدو كأنك قديس، أيكون الشاعر في مرتبة القديسين إذن؟
* ليس القديّسون بل الأنبياء. القديس لا يأتي بعد النبي إلا إذا كان شاعراً، وإلّا فبينه وبين النبي درجات.
– أنت متصوّف كما يبدو؟
* أنا صوفي، ونشأتي كانت نشأة صوفية.
– إذن حدثنا عن تجربتك الصوفية؟
* الصوفية كالشعر لا حدود لها، يختلف المتصوّف عن المتصوّف اختلاف الشاعر عن الشاعر.
الصوفية هي الفناء بالله، الحلاج متصوف، السهروردي متصوف، المكزون السنجاري متصوف، لكلّ منهم معرفته الخاصة.
– أو لنقل مدخله إلى الذات الإلهية.
* محاولة الدخول إلى الذات الإلهية، الغزالي قال «أنا الله».. فأسرف، وقال آخر: « أنا المعرفة».. فأسرف.
– أنت ماذا تقول؟
* أنا الفناء بالله!
عودة إلى الأرض
– نعود إلى الأرض !! الزمن ماذا يعني لك؟
* أحسّ عناق الموت والحياة منذ الولادة.
والمنتصر فيهما؟
بعض الآراء الدينية والفلسفية تقول ببقاء الإنسان، أنا لا أقول بهذه النحلة.. ولكنني أقول ببقاء الإنسان!
– البقاء المعنوي أم المادي؟
* البقاء المادي.. التناسخ، لا أنظر إلى التناسخ نظرة مذهبية بل فلسفية.
– ولكنك لا تؤمن به؟
* لا
– إذا كنت لا تؤمن بالتناسخ، فكيف تبدو لك رحلة الحياة؟
* لقد كان طرز حياتي طرزاً خاصاً.. عشت طفولتي بالتصوف وما زلت!
(تدخل حفيدتاه الصغيرتان، يأخذهما بين ذراعيه، ويلتقط المصوّر صورة له مع الطفولة)
– أيكون استمرار الإنسان الذي هو فانٍ لا محالة، في الأطفال؟
* ينظر الإنسان إلى أطفاله على أنهم امتداد لحياته.
– أتعدّ هذا أحد مظاهر الخلود؟
* صحيح!
– الطفولة إذن، ماذا تعني لك؟
* الأطفال بعضهم مع بعض ملائكة، حين أقول الأطفال أقول الملائكة أعني ما تصورهم به الأديان منزهون عن كلّ رجس، وفيهم فتنة وجمال.
– والزهرة والفراشة؟
* أقلّ جمالاً من الأطفال
خالقة
– لندخل عالمك السري: ماذا عن المرأة؟
* يقال إن المرأة خلقت من ضلع الرجل.
أنا أقول « هذا ليس اعتقاداً» أن الرجل خلق من رفيف خيال المرأة.
«خلقتني من صبابات مدلهمة
ظمأى الحنين إلى دل وتغرير
فكيف أغفلت قلبي من تجلده
لما توليت إبداعي وتصويري»
– وراء «خالقة» أكانت ثمة امرأة أحببتها؟
* لا يعيش الإنسان خصوصاً الشاعر، دون حب، المرأة الأولى التي أحببتها والتي لا تزال معي.. هي زوجتي، أحببتها وأنا في السادسة عشرة، والحب الأصيل الخالد الذي لا يزال هو حبها.
– وما سواها؟
* حب عابر!
– وقصائدك في الحب؟ أكانت وحدها ملهمتها؟
* كانت هناك ملهمات أما الملهمة الثابتة والأولى فهي زوجتي.. في الأبيات الأخيرة من قصيدة خالقة، أتحدث عن جوهر الروح أي عن المرأة.
«عندي كنوز حنان لا نفاد لها
أنهبتها كل مظلوم ومقهور
أعطي بذلة محروم فوالهفي
لسائل يغدق النعماء منهور»
أما السائل فلا تنهر، استعنت بالآية، السائل أتعس أنواع الفقراء
– في البيتين عطاء يتدفق، وسؤال منهور، ألا يتناقض هذا مع الدمية المحطمة؟
* لكل شيء زمانه، ما يقال في زمن ربما لا يقال في زمن آخر.
– لكن الرؤية العامة لا تتناقض، في خالقة هناك المرأة، والرجل مخلوقها، في الدمية المحطمة، الرجل خالق والمرأة مخلوقة؟
* الخالقة أكثر تعبيراً عن رأيي بالمرأة.
– إذن، كانت «الدمية المحطمة» لحظة غضب؟
* نعم!
… والشعر والشعراء أيضاً
– بدوي الجبل.. كيف يأتيك الشعر؟
* الشعر شيء إلهي مجهول، وموهبة لا يستطيع الإنسان أن يعرف مصدرها، تمضي علي أحياناً سنتان لا أنظم بيتاً من الشعر، أحياناً أنظم خمس قصائد في زمن متقارب.
– في السنتين تكون تختزن، أثناء الهجرة، كما قلت، ولدت معك قصيدتان رائعتان خلال أيام . هذا يعني أنّ ثمّة مخزوناً في نفسك تفجر في لحظة، وهذا يعني أن ما تسميه الإلهام لم يأت من داخلك لنسم ذلك تراكماً.
* هذا في الغوطتين ودمر؟
فمن شمّ عطراً شم لي فيه مأرباً»
أنا نفسي لا أعرف كيف قلت ذلك!!
– لو حللته لعرفت أن هناك شيئاً ما.. واضحاً ومحدداً.. أن لك، وأنت المهاجر تاريخاً من الذكريات والحب في دمر والغوطتين.
* هناك شعراء رأوا ما رأيت وبهم مآرب مثل مآربي ولكنهم لم يقولوا ما قلت.
– هذا ما يسمى التمايز. أنت شاعر متميز عليهم.
* بعضهم كان أستاذي!
– ضع نفسك بين شعراء عصر النهضة؟
* الشاعر متفرد، كلّ شاعر له لونه الخاص، سجيته الخاصة، أنا لا أرضى لوناً غير لوني ولا سجيّة غير سجيتي، لا يعني هذا أن سجيتي وديباجتي ولوني أفضل!
– وشوقي الذي بايعتموه أميراً؟
* لم أبايعه، كنت صغيراً يومها لكنه شاعر ضخم.. والمتنبي كذلك!
– لماذا المقارنة بينهما؟ إن شوقي معارض أكثر مما هو مبدع؟
* وفّق شوقي في معارضاته، وفشل في بعضها، عارض البوصيري في ميميته التي يمتدح بها الرسول.. فسبقه، وعارض ابن زيدون في نونيته بولادة.. فسبقه، وعارض البحتري في سينيته بإيوان كسرى.. فقصر عنه..
– أتعرف شوقي شخصياً؟
* عام 1925، نشر شوقي قصيدته المشهورة في زحلة، فعارضته وأنا ما أزال صغيراً «عشرون عاما» ونشرتهما «الأحرار» معاً، تحت عنوان غريب «لبنان بين شاعرين»، بعد ذلك ذهبت إلى بيروت، واجتمعت به في قبو كان يؤثره حين يسهر، وكان قد قرأ قصيدتي.. فقبلني.
– انطباعك عن شوقي؟
* من رأى شوقي ولم يعرف أنه هو.. لما عرفه.. ليس متحدثاً وليس متأنقاً.. يسمع ويشرب فقط.
– وبشارة الخوري؟
* شاعر عظيم عندما يريد نفسه، ولكنه بدأ ينظم الشعر ليرضي الناس.. فهبط!
– أكنت تحلم بإمارة الشعر؟
* حسبي أني شاعر!
– من شاعر لبنان برأيك: الأخطل الصغير أم أمين نخلة؟
* أمين نخلة لا شك، لا ينظم الشعر إلا من دافع ذاتي، ينظم قليلاً، ديوانه لا يتجاوز المئة صفحة، غير أنه شعر أصيل، فيه نغم، وفيه التفريق بين اللفظة واللفظة، أفضل شوقي.. لكني أحب شعر أمين أكثر، الحب شيء والتفضيل شيء، حافظ إبراهيم شاعر عادي، خليل مطران شاعر رائع، كان متلافاً بالمال والشعر، أساؤوا له بنشر شعره، لو حذفوا نصف شعر مطران لكان أروع، نديم محمد شاعر من أعلى طراز، فيه صور، ألوان، حياة، دبيب، وفيه شاعرية ضخمة.
– وأنت؟
* شاعر!!
– وأنت صغير.. بمن تأثّرت؟
* قرأت شعراء العربية جميعاً على أبي، لكلّ منهم لونه ونسيجه، ولم أتأثر بأحد!
– طبعا استفدت منهم؟
* هذه ثقافة إذا تأثّر الانسان بشيء لا بدّ أن يقلّده من طرف خفي، لم أتأثر بل أعجبت، قرأت المتنبي وأعجبت به ولم أتأثر، لو أن باحثا قرأ شعري لعرف أنني لم أتأثر «على إعجابي» بأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي.
– رأيك بهؤلاء الثلاثة؟
* المتنبي، يمكنك أن تحذف من شعره كثيراً، في شعر الشريف الرضي لا يوجد سقط، لكن رفيع المتنبي لا يلحق به الشريف الرضي.
الحنين إلى المنابع
– في شعرك الأول حنين إلى البدء، إلى القرية خاصة هل لا تزال تحملها معك؟
* لقد رافقتني إلى جنيف على بساطتها وسذاجتها كنت أفضلها على بحيرة جنيف وجمال سويسرا.
– ما الذي تحمله منها؟
* الأم، إنما تلك الأم الصغيرة الحلوة لم تعد أماً – القرية الصافية الحنون فقدناها، صارت القرية قطعة من المدينة.
– فقدت القرية أمك، فأين تبحث عنها الآن؟
* المستقبل بيد الله مادام الإنسان في الحياة إنما الذكريات أعذب.
عالم الذكريات أبدعه الخالق
حتى يزين المخلوقا
لي قبوراً كنزت فيها شبابي
وصبوحي على المنى والغبوقا
كيف لا تنبت الرياحين والشوق
وقلبي على ثراها أريقا»
– لو عدت من جديد تبدأ حياتك أتعيشها كما عشت؟
* «ويارب درب في الحياة سلكته وما حدت عنه لو عرفت المغيبا»
لو عدت لعشت كما عشت؟
– نادم على شيء من الشباب ولهوه؟
* ما تمتعت بلهو الشباب وفتونه!
– نادم لأنك لم تتمتع؟
* لا
– والحلم؟
* دنيا واسعة كالسحر.. كالشعر!
– لو أنك امتلكت الحلم، بماذا تحلم؟
* «فيا رب من أجل الطفولة وحدها أفض بركات السلم شرقاً ومغرباً»
– أخيراً.. ما زلت تنظم الشعر؟
* أنا لا آتي إلى الشعر.. الشعر يأتي إليّ حين يشاء.