لم أعد أذكر المرة الأولى التي شاهدت فيها لوحةً للفنان الراحل عز الدين همت، لكني أعرف أنه منذ المرة الأولى لفت انتباهي توقيعه باللون الأحمر – أكثر الأحيان- على إحدى زاويتي أدنى اللوحة، ذلك التوقيع الذي يبدو وكأنه (ماركة مسجلة).. (ع همت).
قال عنه أستاذ علم الجمال بشير زهدي إنه من أهم من استشعروا مبكراً جماليات الأحياء الدمشقية الشعبية، وجاذبية العمارة المحلية، كما قيل عنه أنه كرس فنه لرسم مدينة دمشق بحاراتها وبيوتها مستكملاً طريق ناظم الجعفري، كلا القولين يعطي عز الدين همت حقه، لكن ليس كل حقه، فالأحياء الشعبية والعمارة المحلية قدمت له جماليات نسيجها العفوي الفريد وعمارتها الحميمة، لكنها ضنت عليه بالألوان، بحكم فقرها بها، ولذلك فإن تأثيرات ناظم الجعفري ظهرت أساساً في اللوحات التي صور فيها همت البيوت الريفية في غوطة دمشق، حيث كانت عينه المرهفة قادرةً على التقاط الوفرة اللونية التي يصنعها اندماج العمارة بالطبيعة، وكذلك الإضاءة المتبدلة التي تتحكم بها ظلال أغصان وأوراق الأشجار.
من جانب آخر فإن مئات اللوحات التي صّور فيها عز الدين همت دمشق القديمة ببراعة فنية وتوثيقية، لم تكن هي الوجه الأكثر تميزاً في تجربته، وإنما كان في تلك اللوحات البالغة الإتقان التي صّور بها مشاهد الطبيعة في محيط دمشق وغوطتها، وفي عدة مناطق سورية سواها، فهذه اللوحات المترفة بالتفاصيل الصغيرة والألوان الثرية هي من تمنح تجربة همت فرصة وضعها تحت مسماها الصحيح، فهو لم يكن فناناً كلاسيكياً، أو انطباعياً، وإنما فنانٌ واقعي يمثل امتداداً أصيلاً لتجربة الرائد السوري رشاد مصطفى، ولتيار الواقعية الطبيعية الذي نشأ في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، وقام على دراسة الطبيعة مباشرة و نقلها بكل دقة و أمانة، فإلى ذلك الوقت كان إسلوب مصوري الطبيعة يقوم على نقل الخطوط الكبرى للطبيعة على لوحاتهم أو دفاتر الاسكتش، ومن ثم يقومون بتلوينها في المرسم بألوان عاتمة لا ارتباط بينها و بين الألوان الطبيعية للموضوعات الخارجية، وقد شعر الفنانون (الواقعيون الطبيعيون) أن الطبيعة قادرة أن تمدهم بمعين لا ينضب من الثروة الجمالية و اللونية، فانصرفوا اليها الواحد تلو الآخر يستخرجون منها لوحاتهم الطبيعية الحية و مواضيعهم المبتكرة، رغم مقاومة وسخرية أعضاء الأكاديمية المتزمتين، وهذا ما فعله تماماً عز الدين همت، فقد كان يحمل عدة الرسم وينطلق إلى الطبيعة مصوراً مشاهدها (المنتقاة ببراعة) بأكبر قدر من الأمانة والإتقان والدقة، وأيضاً بأكبر قدر من المتعة التي لا تغيب عن المشاهد، وهذا كان حاله أيضاً مع حارات دمشق وبيوتها وأسواقها وعمارتها، فقد كان هنا أيضاً أميناً لأسلوبه الفني الذي ينقل المشهد كما هو بأشكاله وألوانه وظلاله، وصُور بعض لوحاته الملتقطة بالأبيض والأسود تشي عن حسه الغرافيكي العالي، وبتعبير آخر عن إحساسه المرهف بالدرجات الوفيرة بين الأبيض والأسود، وموهبته في التقاط العلاقة بين الضوء والظل.
في مطلع الثمانينات كنت أتابع معاملة وفاة والدي في المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات حين شاهدت في مكتب أحد المديرين لوحة جميلة عن الطبيعة عليها التوقيع الشهير (الماركة المسجلة)، ومع استغراقي بها لم ألحظ أن المدير كان قد وقع المعاملة وانتظر أن أنتهي من تأملي، أردت أخباره عن دهشتي من وجود لوحة أصلية في هذا المكان، لكني تراجعت حين شاهدت بطاقة التعريف على المكتب وعليها اسم عز الدين همت، لم أتحدث عن إعجابي باللوحة، ربما خشية أن يبدو ذلك تملقاً، ولم يبدو من جهته معنياً بالإطراء، هكذا كان حاله دوماً، مؤمناً بتجربته وغير مهتمٍ بالترويج الإعلامي لها، فلم يستجدِ يوماً كتابةً عنها، كما لم يتسول شراء لوحاته، أو ينتقد المبلغ الذي تقتنى به من المعارض الرسمية، فمع غزارة انتاجه طوال حياته، وتفرغه للفن بعد تقاعده من عمله الوظيفي، بقي مسكوناً بروح الهاوي، الذي ولد في رحاب جمال دمشق القديمة عام 1938 ورسم أول لوحة مكتملة وهو في الخامسة عشر من عمره، وأسس مع عدد من الفنانين الشباب مجموعة للرسم من الطبيعة وحصل على الجائزة الأولى في معرض جامعة دمشق لعامي 1960-1961 والميدالية الذهبية لأسبوع شباب الجامعات المصرية والسورية عام 1961، وشارك بحيوية، على امتداد أكثر من خمسين سنة، في المعارض الفنية الجماعية، إضافة إلى معارضه الفردية.
إذ لم تكن كلية الفنون الجميلة قد تأسست عندما نال شهادة الدراسة الثانوية، اختار همت دراسة كلية الحقوق فنال إجازتها الجامعية سنة 1963 وكان الأول على دورته، ثم عمل في المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات وترأس عدة دوائر فيها، وكان مدير الشؤون القانونية فيها خلال السنوات الثلاثة عشر التي سبقت بلوغه سن التقاعد، وثمة لوحة فريدة لبيوت شارع الثورة من الأعلى، أعتقد أنه صورها من أعلى بناء المؤسسة المواجه لها.
بدأ عز الدين همت مشاركته في المعرض السنوي منذ عام 1959 وعلى امتداد السنوات التالية، وخاصة الأخيرة منها، كانت لجان انتقاء المعرض حريصة على وجود لوحته، ليس احتراماً لاسمه الكبير وتجربته الثرية فحسب، وإنما – أيضاً – لأن لوحته تمثل حالة خاصة في المشهد التشكيلي السوري، واتجاهاً مستمراً يجب أن لا يغيب عن المعرض البانورامي للفن السوري. والأهم من ذلك أنها بقيت دائماً تمتلك أسباب عرضها الفنية والجمالية، حتى أنه في إحدى السنوات استعار واحد من أعضاء اللجنة تعبير (راكور) من الدراميين في إشارة إلى أن لوحة همت هي من ثوابت المعرض.
هذا العام لن يحضر عز الدين همت معرض الخريف، فقد طوى الأسبوع الماضي رحلة اثنتين وثمانين سنة، ورحل عنا بهدوء يماثل سلوكه ولوحاته، مودِعاً في ذاكرتنا ينابيع من الجمال الهادئ، والهدوء الساحر.
إضاءات – سعد القاسم