الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
حين أرّخ الباحثون لحركة التأليف في “المعاجم العربية” ذكروا ثلاث مراحل؛ كانت المرحلة الأولى لتدوين الألفاظ من دون ترتيب معين، وشرحها في القالب، ومن هذه المرحلة مدونات كتب (النوادر) ومنها نوادر أبي زيد الأنصاري. وفي المرحلة الثانية دوّنت الألفاظ مرتبة في رسائل في موضوع واحد، أو منسوقة اعتماداً على حرف من الحروف، ومن ذلك كتابا (اللبأ واللبن) للأنصاري، و(النخل والكرم) للأصمعي. أما المرحلة الثالثة فكانت مرحلة وضع المعجم الشامل، وإلى هذه المرحلة ينتمي (معجم مقاييس اللغة) لأحمد بن فارس الذي اعتمد فيه ترتيب الألفاظ بحسب أوائل أصولها مراعياً النظام الهجائي (الألفبائي).
ونظراً لما كان لهذا المعجم – معجم مقاييس اللغة – من أثر في حركة تأليف المعاجم في التراث العربي، ولما تمتع به من مزايا خاصة جعلته مفرداً بين معاجم العربية على امتداد تاريخها، فقد صدر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وضمن سلسلة “قضايا لغوية”، كتيب (معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس)، اختيار: د. محمد رضوان الداية، تضمّن تعريفاً بكتاب المقاييس، وبيان أهميته، ومنهجه، وتفرده، وتقديم حياة مؤلفه ابن فارس، ووجوه إبداعه وعطائه العلمي، على الاقتصار والإيجاز.
المؤلف
هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب. أصله من همذان ورحل إلى قزوين فأقام هناك مدة، ثم رحل إلى زنجان وميانج وبغداد، وكان أكثر استقراره في همذان، وتوفي لاحقاً في مدينة الري عام 395 للهجرة.
تلقى ابن فارس علومه على عدد كبير من رجال عصره، أولهم أبوه فارس فقد كان لغوياً وفقيهاً، وأديباً وراوية للشعر. ثم شيوخه أمثال: أبو بكر أحمد بن الحسين الخطيب راوية ثعلب، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطّان، وغيرهما.
تحدث الكثير ممن ترجموا لابن فارس عن معرفته باللغة، وولعه الشديد بها، ونبّهوا في أكثر من موضع على التزامه إيراد الصحيح من اللغات، وقد علّق هارون محقق المقاييس على هذا الملمح بأن الناظر في كتاب المقاييس يلمس من ابن فارس حرصه على إيراد الصحيح من اللغات، ويرى أيضاً صدق تحريه، وتحرّجه من إثبات ما لم يصح، وهو على كثرة اعتماده على ابن دريد ينقد بعض ما أورده في كتابه (الجمهرة) من اللغات، ويضعه على محك امتحانه وتوثيقه، فإذا فيه الزيف والريب.
فكرة المقاييس
يعد كتاب مقاييس اللغة تأليفاً فذاً لم يُسبق ابن فارس إلى مثله، فقد كان تطبيقاً لفكرة “الأصول”، أو “المقاييس”، واستعراضاً للمواد اللغوية على هذا الأساس ابتداء من أول حروف المعجم إلى آخرها، على الوجه الذي رسمه ابن فارس في كتابه.
وكان المؤلف قد اعتمد ردّ مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة، وقسّم مواد اللغة أولاً إلى كتب، وبدأ بكتاب الهمزة، وانتهى بكتاب الياء. ثم قسّم كل كتاب إلى أبواب ثلاثة، أولها باب الثنائي المضاعف والمطابق، وثانيهما أبواب الثلاثي الأصول من المواد، وثالثها باب ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرف أصلية. والتزم في البابين الأولين ألا يبدأ بعد الحرف الأول إلا بالذي يليه، ولذا جاء باب المضاعف في كتاب الهمزة، وباب الثلاثي مما أوله همزة وباء مرتباً ترتيباً طبيعياً على نسق حروف الهجاء.
فكرة الأصول
ردّ ابن فارس أكثر المواد اللغوية إلى أصل واحد، وأورد ما يرجع إلى أصلين أو ثلاثة، وقد يرتفع إلى أربعة أو خمسة، وقد لا يجد لبعض المواد أصولاً البتة، وحينها يحكم عليها بالتباين، أو التباعد، أو الانفراد، أو عدم الانقياس.
ويردّ ابن فارس هذه الظواهر إلى ارتجال العرب في هذه المواد، وعدم اشتقاق بعضها من بعض، وذلك دليل على أن كلام العرب موضوع وضعاً من غير قياس ولا اشتقاق.
وابن فارس لا يستنبط أصوله إلا من المواد العربية الصحيحة، الكثيرة الصيغ، والمشتقة، لذلك لا تعد من الأصول الأصناف الآتية من المواد: المشكوك فيها – المواد المُعَرّبة – المواد المبدلة – الواو المقلوبة – المواد التي تتألف منها كلمة واحدة – حكاية الأصوات – أسماء النبات والأعلام والألقاب – الإتباع – المواد المنحوتة – المبهمات.
وترك ابن فارس في مقاييسه الباب مفتوحاً لبعض الاحتمالات في ردّ مفردات معينة إلى الأصل الذي اعتمده في المادة اللغوية المعالجة، ووضعَ عباراتٍ هي نوع من المصطلح، فقد كان واعياً تماماً إلى أنه يقدم جديداً في عمل المعاجم، وفي تصنيف المواد اللغوية وتعيين أصولها ومقاييسها.
التاريخ: الثلاثاء8-9-2020
رقم العدد :1012