اشتعل قلبي بنار الفقد قبل عشر من السنين.. متزامناً مع حرائق تلتهم أشجاراً من جبالنا الجميلة بسبب ارتفاع درجات الحرارة في مثل هذه الأيام، بفعل فاعل أو من عوامل الطبيعة والرياح.. ويتجدد حريق قلبي مع كل حريق يطول غابات وطني.
ومن ذاك التاريخ وفي كل سنة، تستعيد الحرائق بطشها لتزيد على ألمي ألم الوطن. وكما التهمت النار الكثير من أشجار وطني، التهمت نار الفراق قلبي على فقد شريك العمر وامرأة كان الخير ينبت من يديها الكريمتين، والنور يضيء حياتنا من وجهها.
فقدتُ السند، والصدر الحنون. أثقلني الموت حين غيَّبهم، الموت الذي انتهك حرمة داري ودار أمي،الذي أضحت نوافذه مغلقة.فلا شمس ولا نور ولا إضاءة تبدد عتمة الليل في بيت كان يضج بالحياة. كما فقدت الجميلة بعضاً من شلال شعرها الأخضر.
بلدي تتوجع رئاتها من النار التي تطول بألسنتها الكثير من أسناخها، مع وصولها لكل شجرة من رئاتها الخضراء. أشجارٌ عمرها مئات السنين، والأسوأ أن النار وصلت منازل الفقراء الذين يزرعون قوتهم وهم ينتظرون الموسم مع كل صيف.
يرقبون النوارس التي تزورهم مع أبناء من أرجاء الوطن، يطمئن كل على الآخر. يغيب الليل هناك ويشبك يده بضياء الفجر فرحاً وهو يغبط ذاته مع فرحة كل طفل يطأ الرمال نحو الماء المالحة، مشتاقاً أو زائر لأول مرة. ميمماً وجهه شطر الجبال.
شواطئ تعج بأسراب المصطافين، وهم يرتقون جبالاً رائعة الجمال محتضنة المياه الزرقاء، في إبداع إلهي تفتقده معظم الدول التي تشرف على المتوسط.. البحر اليوم حزين، وهو يشهد النار تشتد لتغزو شقائق عمره، أشجار رافق عمرها وهي تكبر.
قلوب كثيرة لسعتها النار بألسنتها أولئك الذين طالت بيوتهم، وزرعهم، وضروع كانت تسقي أبناءهم لبناً غذاءً وحيداً لكثير من الصغار.أشجار تفحمت لتصبغ فؤاد من يحب وطنه بسواد حروقها ودموع شاركت دموع الثكالى وكل من فقد عزيزاً.
أشجار تعادل في حبها لمن زرعها حبه لأبنائه، وهو يراها تكبر معهم. وقد تكون هدية جد فارق الحياة، وتركها إرثاً وكنزاً يفاخرون به. وشجرة كبرت مع أيامه يهديها لابن، تكون ذكرى له بعد الغياب. أو هدية زواج لفتاة غادرت ضيعتها تحتضنها كلما زارت المكان الذي احتضن طفولتها. ظللتها وحملت أنواراً أضاءت ليل زفافها.
كم من الذكريات حفرت أسماء عشاق على سوق الأشجار مسحتها النار وغيبت معها قصص حب عمرَّت أُسراً ، وصارت إرثاً وحكايا جدات لأحفاد يتشوقون لقصص تضاهي ألف ليلة وليلة.. إنها قصص عايشت الحياة وليست نسج خيال.
أشجار عذرية في مواقع عذراء لم يطلها فأس حاقد ولا معول لئيم.. ابتعدت بذاتها عن عيون الحاسدين لتمنح فيئها لمن يسند ظهره لها يودع همومه عندها.. ومن يحمل أوراقه لينظم قصيدة أو يكتب خاطرة أو قصة حياته لتصبح عبرة للآخرين.
يزداد قلبي اشتعالاً من ألم فراق أحبة مازلت في ذهول لغيابهم، اختطفتهم يد المنون دون استئذان. أو مؤشر يوحي أن غيابهم قريب دون عودة. من غابوا عن عيني منذ عشر سنين ومن فارقوني منذ أيام.. هل علي أن أحترق مثل أشجار وطني.
أما كفى الحاقدين كل القرابين التي افتدت سورية الوطن بأرواحها لتحميها من إرهاب دمر بنيتها واستهدف شبابها ومقدراتها.. حقد مازلتُ كما الكثيرين، نخال أن بداية الحريق ليست من مستصغر الشرر، بل من يدٍ آثمة حاقدة سخرت لتشويه وطني.
إضاءات- شهناز صبحي فاكوش