ربما كان مفهوم الديمقراطية أكثر التعبيرات السياسية تداولاً وتناولاً وتفسيراً، ولا شك أن تعدد أساليب تطبيق الديمقراطية وتمظهراتها هو الذي يجعل المفهوم عرضة لكل هذه الأشكال من الشرح والتفسير والتأويل، ولا شك أن الديمقراطية عملية مركبة وتراكمية تنشأ في مناخ ومجال عام وهي بهذا المعنى كائن حي يمر بمراحل مختلفة وربما كانت ولادته قيصرية أو عسيرة، ويرى بعض محللي الظاهرة أن الديكتاتورية قد تعبد الطريق للديمقراطية والديمقراطية قد تقوم بنفس الدور أيضاً أي تمهد الطريق للديكتاتورية وهناك أمثلة عديدة حول ذلك منها ما جرى في ألمانيا وإيطاليا والبرتغال وتشيلي وغيرها من الدول، ولا شك أن الديمقراطية قبل هذا وذاك هي ثقافة وسلوك وتربية ترتبط في جانب من جوانبها بطبائع المجتمعات والنمط الأخلاقي والقيمي الذي يحكم اتجاهاتها العامة، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن الديمقراطية تحكمها أسس وعناصر وسمات تشكل قواسم مشتركة لأي تجربة مهما امتلكت من خصوصيات ثقافية أو مجتمعية، من قبيل حرية التعبير والاعتقاد وحرية الصحافة وتداول السلطة وسيادة القانون ومفهوم المواطنة وغيرها من مفردات.
إن الإشارة إلى تلك المفاهيم تعكس أهمية وعي أبعادها والهدف منها، فالحرية وتعبيراتها وتمظهراتها تعكسها بالنتيجة وضعية عامة ومستويات اقتصادية واجتماعية تؤثر وتتأثر بها، من هنا تبرز أهمية انعكاس العملية الديمقراطية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فمجتمع يمارس أشكالا متقدمة من أشكال الديمقراطية هو مجتمع قادر على تحقيق مستويات عالية من التطور الاقتصادي بحكم آلية الرقابة التي توفرها حرية النقد والإعلام ومحاربة كل أشكال الفساد إضافة لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وشفافية عمل المؤسسات، والاستثمار الأمثل للطاقات البشرية والمادية، ما يمكن الرأي العام من الاطلاع عليها ومراقبتها ونقدها وتقويم أدائها، إضافة إلى اتباع معايير واضحة لإشغال الوظائف العامة ومأسسة عمل الدولة واتباع حوكمة اقتصادية وحكم رشيد.
إن قيام نظام ديمقراطي حقيقي يتأسس على مبدأ سيادة القانون يتوافق مع مفهوم العدالة ويكرس مبدأ المواطنة الحقة كفيل بإطلاق الطاقات الخلاقة للجماعات البشرية، ويمكنه تحقيق استثمار أمثل للموارد البشرية وتحفيز للطاقات الشابة وحسن استثمار للكفاءات والمهارات والمواهب، إضافة إلى تسخير كافة الموارد المادية والبشرية لخدمة المجتمع ما يمكن من توطين ثقافة العمل والإبداع والإنجاز وتحويلها إلى سلوك عام يجعل منها أولوية في نسق القيم الاجتماعية.
إن مفهوم الحرية ليس مفهوماً مجرداً يتعلق بعناصر في الشكل بقدر ما هو حالة جوهرية تحرر فيه كل طاقات الفرد والجماعة ويتيح لها التعبير عما تختزنه من مكنونات وقدرات وإبداعات بل وتحرض كل ما هو كامن منها بفعل المناخ العام الذي توفره، من هنا يصبح مفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية مرتبط بقضية التنمية والعدالة الاجتماعية ما يكسب قضية الديمقراطية أبعادها ومعانيها الحقيقيين، ويجعل منها أولوية في بناء المجتمعات الحديثة، ونظراً لأهمية المسألة الديمقراطية وتكريسها في الحياة العامة قامت بعض الدول بإنشاء ما يمكن تسميته المركز الوطني لممارسة الديمقراطية، وتغلغلها في المجتمع يعطي مؤشرات على ممارستها من قبيل رصد نسبة المشاركين في الانتخابات وتوزعهم بين الشباب ومتوسطي العمر والكهول ونسبتهم بين الذكور والإناث والمدن والأرياف والعاملين في قطاعات الدولة والعمل الخاص وغيرها، إضافة إلى ما تكشف عنه وسائل الإعلام من قضايا فساد وغيرها وعدد الأحزاب ومنتسبيها وطبيعة برامجها وأيديولوجياتها وطبيعة العلاقة بين السلطات المحلية والمركزية وغيرها من مؤشرات قابلة للقياس والتحقق والرصد.
إضاءات- د. خلف المفتاح