الملحق الثقافي:سلام الفاضل :
رأى الملك سليمان قديماً: «إن كلام الإنسان العادل كالفضة الخالصة»، ومنذ ذلك الحين ظهرت الحكمة الشائعة التي تقول: إن لم يكن الكلام من ذهب فهو على الأقل من فضة. فالكلمات إذاً تُسك كما تُسك العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول. فهي – أي الكلمات – عملة التفكير، ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نصف اللغة والنقود معاً بأنهما رصيدان، فإنما نلفت النظر إلى دوريهما في تحقق الفرد. فهما قدرة كامنة تجعل تحقق الفرد ممكناً عن طريق توسيع نطاق الفعل عند من يمتلكونهما، وبالتالي الإعانة على التكيف مع المجتمع.
قيمة اللغة
اللغة هي أداة قبل كل شيء، فهي ليست قيمة، وإنما تنطوي على قيمة، ومع ذلك فإن التحقق من المعايير التي تحدد قيمة لغة ما ليست مهمة سهلة وواضحة.
في الواقع إن الكثير من علماء اللغة ينكرون وجود أي أساس منطقي أو رغبة في إطلاق أحكام قيمة حول موضوعات بحثهم. ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً، ففي القرن التاسع عشر كان شائعاً، وبدرجة كبيرة، أن تُقيّم اللغات بوصفها لغات رفيعة أو لغات دنيا. وملاحظة همبولت الصريحة تعبر في الواقع عن روح عصره: «كون الأمم الأوفر حظاً من غيرها من حيث القدرات تمتلك تحت ظروف أكثر مؤاتاة، لغات أكثر تفوقاً من غيرها، إنما هو أمر قائم في طبيعة الأشياء ذاتها».
فهمبولت نظر إلى اللغات إذاً بوصفها نتاجاً للعقل، يشكّلها وتعبر عنه. وهي تختلف في قدرتها على التعبير عن المقولات الأساسية للتفكير، هذه القدرة التي ترجع إلى تركيبها القواعدي ومعجمها اللغوي. على أن مثل هذه الأحكام القيمية في التيار الرئيسي لعلم اللغة في القرن العشرين قد تم التخلي عنها من أجل تخليص العلم في المقام الأول من ميراثه المتمركز حول أوروبا. فقد أظهر وصف عدد هائل ومتنوع من اللغات غير المكتوبة، خاصة في أمريكا الشمالية، أن اللغات لا يمكن التمييز بينها عن طريق مجمل تركيبها، وفضلاً عن هذا ليس هناك ارتباط بين تركيب اللغة وبين التطور الاجتماعي – الاقتصادي لمتكلميها كما يقاس بالمعايير الغربية.
القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية
كل من يدرس مسألة قيمة السلع يواجهه معنى اقتصادي مزدوج لهذا المفهوم، أي قيمة الشيء الاستعمالية وقيمته التبادلية. وعلماء الاقتصاد قد أثارت اهتمامهم طويلاً حقيقة وجود فروقات ملحوظة بين القيمتين؛ هذه الفروقات التي لا يمكن تفسيرها من دون أدوات مفاهيمية دقيقة.
وعلى اعتبار أن اللغة، في معناها العام، هي نظام الاتصال الأكثر كفاءة الموجود تحت تصرف البشر، فإنه ينتج عنها مباشرة قيمة استعمالية فائقة. فاللغة الإنسانية هي ملكية طبيعية لكل إنسان طبيعي، وهذا قد يوصل المرء إلى استنتاج مُلبس، ربما، وهو أن يتم إسناد قيمة استعمالية لملكة اللغة لأنها مثل اليد القابضة – خاصية مميزة للجنس البشري، غير أنه ومن جانب آخر إذا نظرنا إلى عازفي البيانو الذي يؤمّنون على أيديهم يبدو أنه حتى الأعضاء الرئيسية في أجسادنا يمكن النظر إليها باعتبارها تحتوي قيمة استعمالية.
واذا انتقلنا باللغة من الجنس – أي بوصفها ملكة – إلى النوع – أي إلى اللغات – فإن قيمة لغة معينة ترتبط بعدد متكلميها، فكلما زاد عدد هؤلاء الذين يمكن أن أتفاعل معهم عن طريق لغة ما، زاد نفعها لي بالمعنى الفعلي العملي، لأن كل متكلم يزيد من مجمل التفاعلات المفيدة الممكنة. فالجماعة اللغوية الكبيرة تقدم نطاقاً واسعاً من الفرص الاتصالية لأعضائها، وتتيح لهم إدراك هذه الفرص في أماكن كثيرة مختلفة، مما يترتب عليه لا التفاضل فحسب، بل إمكان الحراك أيضاً. وتتضح حقيقة أهمية الحجم عندما نضع في الاعتبار المتطلبات الوظيفية، والتفاضل الوظيفي للاتصال الحديث؛ فالتفاضل الوظيفي للغة معينة – وفق ما ورد في كتاب (اللغة والاقتصاد)، تأليف: فلوريان كولماس، وترجمة: د. أحمد عوض – يعتمد أيضاً على وضعها الجيوبولتيكي، وعلى حجمها بالنسبة إلى المجموعات المحددة سياسياً وليس لغوياً، وهذه العوامل تجعل من الصعب تقييم حجم الجماعة اللغوية بوصفه عاملاً من عوامل القيمة الاقتصادية للغة تلك الجماعة.
وما دامت اللغات تتطور تاريخياً، فإنها تختلف عن بعضها البعض في جوانب كثيرة، وعوامل كثيرة، ومن المعروف أيضاً أن هذه العوامل لها تأثير في مدى جاذبية لغة ما بوصفها لغة أجنبية، وبناء على ذلك فقد اختصّ «كلوس» عدد المتكلمين الذين يتكلمون أو يدرسون لغة معينة على أنها لغة أجنبية، باعتباره المؤشر الأقوى على الوضع العالمي لهذه اللغة.
اللغة بوصفها وسيلة إنتاج
يمكن القول بأن عدداً قليلاً جداً من لغات العالم هو المناسب بشكل مطلق لتبادل الأفكار العلمية، وإنه لأمر بالغ الدلالة في هذا الصدد، على سبيل المثال، أن علماء الفيزياء الحائزين على جائزة نوبل حتى الآن ينتمون إلى تسع لغات أم مختلفة فقط، والشيء نفسه يمكن ملاحظته بالنسبة إلى التكنولوجيا والإدارة والقانون والمجالات الأخرى للاتصال المتطور بدرجة عالية، وهو ما يعزز كثيراً القيمة الاقتصادية للغات المشتركة، ويؤكد قدرة هذه اللغات على خدمة المجالات المذكورة، وتقديم وسيلة المعرفة المفيدة لكل من الفرد والمجتمع.
واللغات – من وجهة النظر هذه – أصبح يُنظر إليها بالفعل على اعتبار أنها واسطة أو أداة إنتاج، وإن بدت شبه مستقرة، داخل إطار الجماعة اللغوية المعنية، بالنظر إلى أنها ملكية مشتركة للجميع.
وعند النظر إلى اللغات بوصفها أداة إنتاج ينبغي التمييز بحرص بين جانبين: الأول هو طبيعة أداة الإنتاج، وهنا يجب التمييز بالنظر للإمكان الوظيفي للغة ما مقارنة بغيرها، بمعنى درجة ملاءمتها لمتطلبات الاتصال الحديث. والجانب الثاني هو ظروف استخدام هذه اللغة، والإمكانيات التي تملكها في محيط معين، أو في سوق معينة بشكل خاص.
وللتأكد دائماً من أن اللغة تساعد في الوصول إلى أهدافها من دون وجود معوقات تحدها، فمن الضروري أن نطوع هذه اللغة ونصقلها، وأن نعدّ مشاريع استثمار رأسمالي بالمعنى الحرفي وليس المجازي. ومن أهم الاستثمارات التي تساعد في الانتفاع باللغة: تصنيف المعاجم للاستعمال العام، وكذلك معاجم المصطلحات للاستعمالات المحددة، وإنشاء برامج لمعالجة النصوص، والترجمة الآلية، والذكاء الصناعي، وإقامة نُظم وبنوك المعلومات، وتحسين الاتصال بين الإنسان والآلة، أي تطويع لغات الكمبيوتر للغات الإنسانية.
التاريخ: الثلاثاء22-9-2020
رقم العدد :1014