التحولات الاجتماعية لا تنفك تطرأ على مجتمعات العالم، وبعض هذه المجتمعات يتفاعل معها بشكل سريع، ويتطور حسب مقتضاها، بينما بعضها الآخر ينتظر، أو يتأخر قبل أن يندمج، ويسير في درب التغيير.
والتقاليد المتأصلة، والعادات المتجذرة تفعل فعلها في هذا السياق، وخاصة في المجتمعات الشرقية، إذ ليس من السهل استبدال عادات انغرست بأخرى، أو دخول ما هو حديث عليها، ما لم يمزقها أصحابها ويخرجوا من عباءتها.. وفي حال ذوبان القديم منها أمام موجة كل ما هو مستجد فإن هذه التقاليد، والعادات قد تظل هلامية لفترة من الزمن قبل أن تتشكل على هيئة ممارسات جديدة لم تكن قائمة من قبل.
والعولمة التي أصبحت واقعاً اندمجت فيه كل الدول قد فرضت تبدلاتٍ وتغيراتٍ ليس منها بُدّ، ينصهر الجميع في بوتقتها اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً أيضاً.. إلا أن العلاقة الأوثق هي تلك التي ما بين العولمة والتطور التكنولوجي الذي اكتسح بدوره الدنيا بكل ما له، وما عليه.. والثقافة وهي أخطر عوامل التغيير فقد تحولت أغلب منافذها إلى النوافذ الرقمية، وأصبحت كل الأفكار، والثقافات منفتحة على بعضها بعضاً بطوفان من المعلومات، وهي تؤثر، وتتأثر بآنٍ معاً.
لا شك أنه بسبب ذلك أصبح حجم المعرفة أكبر، وأكثر يسراً، وسهولة في الوصول إلى أية معلومة، لكن هذا له انعكاساته المختلفة في بناء الفرد، والمجتمع.. وما دام أبعد شخص في أكثر المناطق نأياً يستطيع أن يتصل بالحضر، والحضارة، وينفتح على عوالمها بكبسة زر من الأجهزة الرقمية فما من أحد في ظل العولمة عاد ساذجاً تبهره أضواء المدن، والعواصم.. أما أكثر مَنْ هم على اتصال شبه دائم بتلك الوسائل الحضارية فهم من فئة الشباب، والأطفال أيضاً. أجل.. إنهم الأطفال الذين أصبحوا يربون أنفسهم بأنفسهم حسب تعبير أحدهم، وهم يلتقطون كل شيء عبر شبكة المعلومات حتى ظننا أنهم أكثر ذكاءً من أجيال سبقت، نظراً لبراعتهم في استخدام الأجهزة الرقمية، ومعرفتهم في التعامل مع المواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي، بينما هذا ليس بغريب على أجيال فتحت أعينها في عصر الرقمية، ونشأت في ظلها فتعرفت على أدواتها، وتعاملت معها في أعمار مبكرة.
فيما مضى كان الأبناء يستقون أغلب معلوماتهم، وخبراتهم من الوالدين، ومن المدرسة، والمجتمع، لكن أبناء اليوم أصبحوا يستقون تلك المعلومات، والخبرات، والمعارف، وحتى العلوم من الشبكة الذكية التي لا تخذل المتصل بها، حتى غدت الشبكة من وجهة نظر الأبناء أكثر موثوقية فيما يقرؤونه، ويسمعونه، ويشاهدونه من مصادر الآباء، والأجداد، وكل مَنْ هم في دوائر مصادرهم الضيقة، أو الواسعة على حد سواء، وبغض النظر عن نوعية ما يعثرون عليه من محتوى، ومدى مصداقيته من عدمها.
وما يثير الاهتمام، ويستدعي إجابات حاسمة حوله هو عن نوعية هذه التجارب، والمعلومات التي تصل إلى المتلقي عبر الشبكة، وما مدى تأثيرها عليه، وانقياده وفق ما تمليه.. وكيف على المجتمع أن يتعامل مع أبنائه بشكل إيجابي حسب المتغيرات التي ساقتها العولمة؟
إن حراكاً اجتماعياً نحو تغيير واسع داخل مجتمعاتنا بات يقوم في صراع مع التقاليد السائدة، والعادات التي فرضت نفسها لسنين، وعقود.. والأمر بالتالي يفرض نفسه حول وجوب المناقشة، وإعادة النظر بكل ما يدخل إلى ثقافتنا من أساليب، وأنماط جديدة للحياة هي ليست أصلاً من نسيجنا، ولا من منظومة قيمنا سواء منها الأخلاقية، أو الاجتماعية، أو الدينية.. وهذا ليس هروباً نحو الوراء، وإنما هو انتقاء واصطفاء حتى لا يتغير وجهنا، ونظل نُعرف بهويتنا، فلا نصبح أشباه أنفسنا إذا ما سحبتنا العولمة عميقاً في دواماتها.
فأبناء العولمة ما عادوا كأبناء الأمس.. وحتى طفل اليوم ما عاد طفلاً سهل الانقياد بل أصبح قادراً على الاختيار، والانتقاد، وقطف النجوم من السماء..
(إضاءات) ـ لينــــــا كيــــــــــــلاني