ذلكَ الطفلُ الذي كنتُ…

ما من صورةٍ أحبُّ استحضاراً للشاعرِ من صورتِهِ طفلاً أو فتىً؛ مهما كانَ شكلُ تلكَ الطفولةِ أو الفتوّةِ التي عاشها… سواءَ كان مُنعَّماً مُدلَّلاً فيها، أو فقيراً… مُعدَماً… جائعاً… ولاسيّما حين يتقدَّمُ العمرُ بالشاعر، والأسبابُ كثيرةٌ جداً ولكنَّها تكادُ تكونُ معروفَةً في معظمِ الحالات.

إنَّها غالباً العودة إلى الطُهرِ والنقاءِ والفطرةِ البريئة، والصدق، والحبِّ غيرِ المحكومِ بالغاياتِ المختلفة، والعذوبة، إنَّها العودةُ إلى الغضاضةِ والطراوةِ واللدونةِ، العودة إلى الخلايا النشطة المحبّة للحياة، المُتحفِّزة للقادمِ البهي، العودة إلى الروحِ الزرقاء المُقبلة على كلِّ شيءٍ، العودة إلى الأجنحةِ الصغيرةِ التي توشكُ أن تبزغَ وللزغب الذي سيبدأُ بالتحولِ إلى خوافٍ وقوادمَ قويّة قادرة على حملِ صاحبها إلى فضاءاتِ الدنيا وعوالمها؛ العودة ربّما إلى الشقاواتِ الصغيرةِ والخطيرةِ في الآنِ نفسه، لنقرأ للشاعرِ أمل دُنقل وقد وقفَ أمامَ صورةٍ عائليّة، يبدو فيها طفلاً، فكادَ لا يعرفُ نفسه من جرَّاءِ ما قاسى في حياته:

“هل أنا كنت طفلاً

أم أن الذي كان طفلاً سوايْ

هذه الصورةُ العائليّةُ

كان أبي جالساً، وأنا واقفٌ … تتدلى يدايْ

رفسة من فرسْ

تركت في جبيني شجَّاً، وعلَّمتِ القلب أن يحترسْ

أتذكّرُ… سال دمي

أتذكّرُ… مات أبي نازفاً

أتذكّرُ… هذا الطريق إلى قبره..

أتذكّرُ… أختي الصغيرة ذات الربيعين.

لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها

المنطمسْ

أو كان الصبيُّ الصغيرُ أنا ؟

أم ترى كان غيري؟

أحدّقُ

لكن تلك الملامح ذات العذوبة

لا تنتمي الآن لي

والعيونُ التي تترقرق بالطيبةِ

الآن لا تنتمي لي

صرتُ عني غريباً

ولم يتبقَّ من السنواتِ الغريبةِ

إلا صدى اسمي

وأسماء من أتذكرهم -فجأة-

بين أعمدة النعي

أولئك الغامضونَ: رفاق صبايْ

يقبلون من الصمت وجهاً فوجها

فيجتمع الشمل كل صباحٍ

لكي نأتنس.

 

ويتخيَّلُ الشاعر الروسي ن. دوبرونرافوف فتىً وسيماً يمرُّ به؛ ليكتشفَ بعدَ قليل أنَّ هذا الفتى ليس إلّا هو؛ لكن قبلَ زمنٍ بعيد:

“التفت أيّها العابرُ المجهول،

إن نظرتكَ النزيهةَ معروفةٌ لي

لعلّكَ أيّها العابرُ أنا -ولكن أكثر شباباً

فنحن لا نَتعّرفُ أنفَسَنا دائماً…

 

ما من شيءٍ يعبُرُ على الأرض دونَما أثر

والشبابُ الذاهبُ لا يموت،

كم كنّا شباباً

كم كنّا شباباً

وكم أحببنا بصدق

وكم وثقنا بأنفسنا!

 

يومَها استقبلتنا الأزهار على طُرقِ الأرض

بلا ضحكاتٍ ساخرة…

وكنّا نسامِحُ أصدقاءنا على أخطائهم

لكننا لم نسامِح على الخيانةِ البتّة”.

وهل من الممكن في هذا السياق أن ننسى ذلكَ المقطع الجميل، الذي يتحدَّثُ فيهِ أدونيس عن الطفل الذي كانَه ذات يوم؛ وهو يبزغُ أمامه “وجهاً غريباً”، ينظرُ إليهِ دونَ أن ينبسَ ببنت شفة؛ ويسيرانِ معاً والشاعرُ يُدركُ أنَّهما، وإن جمعتهما الفصولُ، فقد افترقا منذُ زمنٍ بعيدٍ؛ لكن هل جاءَه ذلكَ الطفلُ مُعاتِباً… مُأنِّباً… مَشوقاً؟ تبقى الحالةُ غائمة عندَ أدونيس، لكنَّها تبعثُ -كعادتهِ- على طرحِ الأسئلة:

“ذلكَ الطفلُ الذي كنتُ، أتاني

مرَّةً وجهاً غريباً.

لم يقلْ شيئاً. مشينا

وكلانا يرمُقُ الآخرَ في صمتٍ.

خُطانا نهرٌ يجري غريباً.

جمعتنا، باسمِ هذا الورقِ الضاربِ في الريحِ الأصولُ،

وافترقنا

غابةً تكتُبها الأرضُ وتُذريها الفصولُ.

أيُّها الطفلُ الذي كُنتُ تقدَّمْ

ما الذي يجمعنا الآنَ وماذا سنقولُ؟”.\

د. ثائر زين الدين

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار