الملحق الثقافي:
إن ذكرى حرب تشرين التحريرية تتطلب وقفة متأنية مع النفس، كما تتطلب في الوقت نفسه عملاً عربياً جاداً لوقف الانهيارات في الصف العربي التي تكرسها “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية والأعوان الخونة، وهذا ما يظهر أثناء العدوان الصهيوني على الوطن العربي جميعاً، وتباين المواقف العربية تجاهه. حيث أكدت الأحداث تصدع الموقف العربي الذي أكدت أهميته حرب تشرين التحريرية والذي نحن بأمس الحاجة إليه الآن.
إن مناخ اليأس الذي تعمل على شيوعه قوى الشر والعدوان في نفوس جماهير العروبة لن يزيد هذه الجماهير إلا إصراراً على التصدي والصمود، كما كان هو الحال عليه قبل حرب تشرين التحريرية، وإن كان هناك من يروج لهذا المناخ من العرب الخونة الانهزاميين.
لقد أثبتت صفحات التاريخ أن جميع الغزوات التي استهدفت بلادنا العربية كان مصيرها الانهزام والانكسار، حيث بقيت الأرض لأصحابها وبقي العرب على أرضهم ولأرضهم.
وما حرب تشرين التحريرية سوى محطة من محطات الصمود في وجه اعتى هجمة استعمارية على أرض العرب حيث أعادت الثقة بالنفس، وأكدت أن الأمة العربية قادرة على الصمود ورد العدوان أياً كان جبروت هذا العدوان.
حرب تشرين التحريرية لم تدخل التاريخ العربي فقط، وإنّما دخلت التاريخ البشري لأنّها تركت بصماتها على التاريخ البشري في زواياه المختلفة.
حرب تشرين محطة من محطات العرب العظمى، نقش الجندي العربي أخبار أيامها على هضاب الجولان، وذرا جبل الشيخ، وجسور العبور المغتصبة على القناة بين الضفتين، يعبر عليها جنود التحرير، لقد أعاد الجندي العربي في هذه الحرب المشرِّفة، تاريخ استبساله وصموده، واخترق أبواب العالم القريب والبعيد، وكشف الحقائق التي طمسها العدو مئات السنين.
إنّ ما حدث في تشرين التحريرية أزال الغبار عن العيون، وأنهى آخر فصل من فصول الذلّ والتمزق، وتشويه الحقائق والتاريخ، بفضل الإدارة الصلبة الصامدة، التي جعلت العدو يفقد صوابه، ويطيح بكلّ النظريات التي استخلصها في ليل العدوان.
حرب تشرين هي التي جعلت موشي ديان يقول: “إن حرب تشرين كانت بمثابة زلزال تعرضت له إسرائيل. إنّ ما حدث في هذه الحرب، قد أزال الغبار عن العيون، وأظهر لنا ما لم نره قبلها، وأدى ذلك إلى تغيير عقلية القادة الإسرائيليّين، وأنّ أشدّ أيّام إسرائيل لم تمرّ بعد”.
أمة حية
أثبتت حرب تشرين التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد أنّ أمتنا الحيّة قادرة على النهوض دائماً من كبوتها، تتخذ قرارها التاريخي تجسيداً لإرادتها وإرادة الجماهير وتكتب تاريخها بدماء أبطالها، وصمود جنودها في خنادق القتال، وتصدي شعبها لكلّ المؤامرات في خنادق الداخل.
لقد ظهر الإنسان العربي على حقيقته، قوياً، شجاعاَ، تواجهه الصعاب، فيقهرها، تواجهه التحديات فيسحقها، ويكره العيش ذليلاً، ينظر إلى السّماء، فيراها قرب هامته، وينظر إلى الأرض، أرض الوطن التي يعيش فوقها، فيرى فيها دماء آبائه وأجداده، أصلاً لعزته وكرامته.
لقد وضعنا في حرب تشرين أقدامنا على بداية الطريق الصحيح، ولكن علينا أن نتابع السيّر بجرأة وثبات، وبدون تردد، على هذه الطريق يجب أن ننطلق من صميم المعركة.
في السادس من تشرين ذلك اليوم الأغرّ، دخل الوطن العربي أروقة الزمان، يفتح دفاتر التاريخ وارتحل الرّجال إليه تاركين عيونهم فوق الساحات المزروعة بالحديد والنّار.
تشرين.. في الخوافق تورق فجراً، ترتسم في العيون أملاً، يعانق خارطة الوطن الواحد.
على وقع أقدام رجاله تنفس الصبح، انتشرت حزمة الضوء، وسار الرجال خلف القائد العظيم، يصيغون لأمتهم فجر يومٍ جديد، فعلى يديه كانت الولادة.
حررنا صورتنا من كل ما لحق بها من زيفٍ وتشويه، فأصبحت الصورة التي تجسد كل الفداء، وكل التضحية، وكل البطولة.
هذه المعاني التي حققناها، وهذه هي انتصاراتنا، وهي بالتأكيد منطلق وأساس لكل انتصار آخر. هذه الانتصارات هي رصيد كبير ودائم لشعبنا وأمتنا. لقد حطمت هذه الانتصارات غطرسة العدو، وقضت على أسطورة جيشها الذي لا يقهر، وهدمت نظرتها الزائفة حول الحدود الآمنة.
لقد أعادت حرب تشرين الخلق وليس البناء، لأنّ التصحيح فيها كان جذرياً، وحرب تشرين ليس بالحدث العابر، وإنّما منعطف حدد خطوات المسيرة المتتابعة نحو الأمام.
إنّ الحرب أجبرت إسرائيل على التراجع عن فكرة التوسع الجغرافي وشكلت منعطفاً مهما على صعيد الحد من القدرات الإسرائيلية وطاقاتها، كما تركت بصماتها على النظام الدولي حيث بدأت الدول نتيجة الحرب، وتطور الفكر التضامني العربي بتحليل نتائجها، والتنسيق فيما بينها، وذلك لمواجهة التحدي الناتج عن سيطرة الدول العربية على ثرواتها، وطاقاتها وإثبات قدرتها على خوض الحرب وقيادتها، وكانت حاجزاً مانعاً للمشاريع الغربية والصهيونية في المنطقة كما أسست الحرب للمقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق.
الحق العربي
لقد كانت سورية الرافعة الأساسية للعروبة في مواجهة الأطماع الصهيونية والمشاريع الغربية في المنطقة، وإن حرب تشرين التحريرية انتصار لسورية وللأمة العربية جمعاء بقيادة القائد الخالد حافظ الأسد. كما أظهرت الحرب أن المحور الذي تقوده سورية هو محور الحق العربي، ولاسيما أن التحالفات التي أقامتها سورية اليوم في ربط الزوايا الإقليمية من خلال تثبيت استراتيجيتها مع إيران تؤكد أن سورية نتيجة حرب تشرين وممارستها التاريخية في التعاطي مع القضايا الإقليمية والدولية أصبحت اليوم حجر الزاوية للعلاقات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.
ولأنّ تشرين أعاد للأمة العربية عزّتها وكبرياءها، ولأنّ إشراقة النصر في تشرين من أعظم الإنجازات التي أثبت فيها المقاتل العربي قدرته على استخدام التقنية الحربية الحديثة، عبّر شاعر العروبة نزار قباني عن فرحة النصر بكلماتٍ:
جاء تشرين.. إنّ وجهك أحلـى بكثيرٍ.. ما سّره تشرين
كيف صارت سنابل القمح أعلى.. كيف صارت عيناك بيت السنونو
إنّ أرض الجولان تشبه عينيكِ فماء يجري.. ولوزٌ وتينُ
كلُّ جرحٍ فيها حديقة وردٍ وربيعٌ.. ولؤلؤ مكنون
يا دمشق البسي دموعي سواراً وتمنّي.. فكل صعبٌ يهونُ
وضعي طرحة العروس لأجلي إنّ مهر المناضلات ثمينُ
هُزم الروم بعد سبعٍ عجافٍ وتعافى وجداننا المطعون
اسحبي الذيل يا قنيطرة المجد وكحّل جفنك يا حرمونُ
علّمينا فقه العروبة يا شام فأنت البيان والتبيينُ
وطني.. يا قصيدة النار والورد تغنّت بما صنعت القرون
نحن عكا.. ونحن كرمل حيفا وجبال الجليل واللطرون
كلّ ليمونة ستنجب طفلاً ومحال أن ينتهي الليمون
التاريخ: الثلاثاء6-10-2020
رقم العدد :1015