ندمت…!
وتمنت لو أنها أجلت سفرها قليلاً… لو أن أمر ما عطلها… ولم ترَ كل هذه القسوة..
عادة تتردد قبل أن تقرر السفر، وتأخذ وقتها، بينما تجهز أغراضها وتنهي انشغالاتها، ولكن هذه المرة أسرعت وهي تفكر بوداع خريفي للبحر، كعادتها كل عام…
بدت الأجواء بمجرد وصولها صباح الخميس الماضي اعتيادية، كما تركتها قبل حوالي الشهرين.. وطأة الحرتغيب ليلاً وتعود نهاراً…
الحال انقلب سريعاً بعد الثانية ليل الجمعة، حيث بدا أن كل ما حولها يشتعل،.. كأن البنزين الذي بتنا نحلم به جميعاً، قد رمي في كل اتجاهات قرى الساحل، المشهد بدا مرعباً، فجأة تولم كل الأحزان موائدها، وتنهال على رأس البساتين، والغابات والحراج… وتأخذ شجرة الزيتون دور البطولة، وتتبعها أشجار البرتقال والليمون والرمان…
حاولت أن تنفصل عاطفياً عن كل ما يحدث علها تتمكن من المساعدة، سرعان ما خذلتها مشاعرها، ولم يعد بإمكانها أن تنسى تلك الذكريات الطفولية عن قرية، وهي تعبر طرقاتها تشعر كأنها طير يحلق، حين تعلو فوق وهادها، سرعان ما تنخفض إلى نهرها تتلمس أرضاً وطأتها أقدام أجدادها يوماً.. كانت دائماً عندما تسأل من أين أنت..؟
تقول القرى الثلاث دفعة واحدة.. من (كلماخو- الفاخورة- الجديدة).. تنطق القرى الثلاث وكأنها كانت دائماً على قناعة تامة أن تلك القرى سوف تساند بعضها دائماً، وتصر على أن تقول كلماخو أولاً… لأنها قرية سبق أن نكبت بغرق أبنائها قبل حوالي أحدى عشرة عاماً في بحيرة زرزر..!
اليوم لم يعد من داعٍ لأن تذكرها.. مجرد ذكر ضيعتها (الجديدة) يمكن لأي شخص أن يعرف مكانها، هي إحدى تلك القرى التي أضيء ليلها، بنيران غادرة، وانتشرت أخبارها.. وتبعتها قرى ساحلية كثيرة، وكأن شيطان النار يأبى أن يتركنا نهدأ..
ما السر.. من كل هذا الاحتراق، من الذي يؤمن أننا لسنا جاهزين للحياة بعد..أو يصر على أننا لا نستحقها…؟!!
وهي تغادر باتجاه سد بلوران، وصغرين.. ووادي قنديل سعياً للاطمئنان على أمكنة أخرى، لم تعد تحملها أرجلها… اقتربت من البحر، هي التي حلمت بوداع خريفي لائق، لم تتوقع يوماً، أنه سيلتحف بكل هذه الغيوم السوداء، وهذا الرماد المتناثر… والنار تدور من مكان إلى آخر.. تأبى الانسحاب..
ومن بعيد… بدا صوت المروحيات حزيناً.. وهي تهدر مغادرة من فوق الحراج، بعد أن عجزت الأيدي البشرية على الوصول إليها، وعلى وقع كل هذا القتوم… انضمت إلى كثر يجلسون والنار حولهم بانتظار أي أمل ينهض ولو من بقايا رماد…!
رؤية- سعاد زاهر