بعد أن أصبحت الأزياء في عصرنا هوساً عند كثير من الناس بدأنا نتساءل عن أسباب هذا الاهتمام الكبير بها، والأزياء، والموضة التي ترافقها ليست بالشأن الجديد فهي موجودة منذ أقدم الأزمان، فلكل عصر أزياء تخصه، ولكل ثقافة، وبيئة جغرافية ما يميزها، ويعبّر عنها، لكن تمازج الثقافات في العصر الحديث أصبح له تأثيره ليس على الفكر، والعلم، وأساليب العيش فقط، وإنما وصل أيضاً إلى الثياب حتى أصبحت المجتمعات ترتدي ما يتشابه مع بعضه بعضاً من الملابس، وكأنه زي واحد موحد بينها جميعاً، ولو كان لا ينسجم مع بيئتة الاجتماعية، بينما غابت نماذج الأزياء التقليدية لتُحفظ في المتاحف، أو يقتصر ارتداؤها على فئات بعينها من المجتمع، وخاصة في المناطق الريفية.
وعندما أصبح هناك ما يسمى (الخياطة الراقية)، واتسع نشاطها حتى أصبحت بيوتها تنتشر في كل العواصم رغم ارتفاع أثمان منتجاتها، تحولت تلك الخياطة من ثياب جميلة وفاخرة لتصبح دلالة اجتماعية على فكرة الثراء، ومعياراً حديثاً للتقييم الاجتماعي.
أما أننا أصبحنا أكثر اهتماماً والتصاقاً بالموضة، وبكل ما تأتي به من جديدها، فذلك لأن أغلب المجتمعات أصبحت استهلاكية، وغير قابلة لمقاومة إغراء ما تقدمه تجارة الأزياء من عروض جذابة، وهي تجارة رائجة ورابحة، وأذرعها ممتدة في كل مكان، وهي لا تقتصر على فئات عمرية دون غيرها وإنما هي للكبار، والصغار من الجنسين.. بل وأبعد من ذلك فكل مَنْ يتمرد على عالم الموضة، ولا يجاريه بات يُنظر إليه وكأنه قادم من زمن مضى، وانقضى.
وعروض الأزياء في كل انحاء العالم تكاد لا تتوقف في مواسمها شرقاً، وغرباً، بينما يتزايد إقبال الجمهور المهتم بها، وتتزايد أعداده باستمرار، ولاسيما أن الدعاية الواسعة تفعل فعلها، أما الوسائل الحديثة من المواقع الإلكترونية التي تهتم بالموضة وصرعاتها، والقنوات الفضائية المخصصة للأزياء وعروضها، ويضاف إليها تلك البرامج التلفزيونية المخصصة لمن يطلقن على أنفسهن اسم (مصممات الأزياء) وهن في حقيقة أمرهن منسقات لا مصممات، وعارضات يستخدمن أجسادهن لعرض أذواقهن في تنسي
ق الثياب، وكذلك مواقع التسويق الإلكترونية، فإن كل ذلك مما ينعش من أمر هذه التجارة، ويوسع من آفاق انتشارها، وهي المدعومة بكل التسهيلات لزبائنها.
وبعد أن غيّرت العارضات بأجسامهن الرشيقة من مقاييس كانت سائدة لجمال المرأة، أصبحن نموذجاً لكل الفتيات للاقتداء بخطواتهن، والموجة تتصاعد لدى مشاهير السينما، والفن، ونجومهما.. وحتى تلك القطعة الصغيرة من القماش التي أصبحت تغطي الوجوه للحماية من إصابة الوباء لم تنجُ هي الأخرى من وباء الموضة، فأصبحت لها تصاميمها الخاصة بها التي تتناسب وأحدث صيحات الأزياء.
ولتأتي جائحة العصر فتسدد سهامها إلى تلك التجارة، وخاصة نحو بيوت الأزياء الراقية متسببة بخسائر مادية كبيرة دفعت القائمين عليها إلى استحداث أساليب جديدة للتسويق تضمن لها الاستمرار لا الانقطاع، وهي لا تخلو من البراعة، والابتكار سواء في إقامة عروض افتراضية لمنتجاتها من دون جمهور، أو في إقامة عروض ممتعة للأزياء كما لو أنها حقيقية تقوم بها دمى متحركة (ماريونيت)، بإحياءٍ لفكرة قديمة لمعارض مصغّرة متنقلة باستخدام عارضاتٍ من الدمى، أو في تصميم برامج إلكترونية لغرف قياس افتراضية لا تخلو أيضاً من متعة التسوق، وبهجة شراء الملابس الجديدة التي تصل إلى المتسوق الذي لم يغادر مقعده في منزله، وحسبما يطلب، وما يشتهي.
هذه الاهتمامات المعاصرة لم تعد هامشية، أو أنها غير ذات تأثير، بل إنها باتت تفتح قنوات، وقوانين جديدة في علم التسويق، بينما هي ترسخ قيماً جديدة أيضاً تدفع لاعتبار المظهر في التقييم الاجتماعي يطغى على المحتوى، أو المضمون، فما دام مظهر الثراء واضحاً فهو لا يستدعي البحث عما هو وراءه من حقيقة صاحبه، ولو كان الجوهر فارغاً، إذ ما عاد المظهر البسيط مقبولاً، ولو كان نظيفاً، وأنيقاً في معايير حديثة للمجتمع تفرضها ثقافة الاستهلاك، ويعززها التسوق الرقمي.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــــلاني ـ