الملحق الثقافي:د. عبد الهادي صالحة:
شهد العالم تغيرات عميقة في السنوات الأخيرة، وأدى التقدم في العلوم والتكنولوجيا إلى تغيير مكانة الإنسان في العالم وطبيعة علاقاته الاجتماعية. إن التعليم والثقافة، اللذين نما معناهما ونطاقهما بشكل كبير، ضروريان للتطور الحقيقي للفرد والمجتمع. لذلك أصبح من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، إثارة «دفاعات السلام» في أذهان كل فرد، والتي يمكن، كما يؤكد دستور اليونسكو، أن تتم بشكل خاص من خلال الثقافة والعلم والتعليم، وهذه مسؤولية الأجيال الحالية وواجبها وحق للأجيال اللاحقة.
يمكن تعريف الثقافة على أنها مزيج من المواقف والقيم والمعتقدات والسلوكيات التي تشترك فيها مجموعة من الناس، والتي تنتقل من جيل إلى جيل. إن الثقافة، بمعناها الواسع، يمكن اعتبارها اليوم مجموعة السمات المميزة، الروحية والمادية، والفكرية والعاطفية، التي تميز المجتمع أو المجموعة الاجتماعية. وهي تشمل، بالإضافة إلى الفنون والآداب، أساليب الحياة وحقوق الإنسان الأساسية وأنظمة القيم والتقاليد، وهذه الثقافة تمنح الإنسان القدرة على التفكير في نفسه. وهذا ما يجعلنا على وجه التحديد بشراً عقلانيين ونقديين وملتزمين أخلاقياً. من خلال الثقافة نميّز القيم ونختار ما يناسبنا. من خلالها يعبر الإنسان عن نفسه، ويدرك نفسه، ويتعرف على نفسه كمشروع غير مكتمل، ويتساءل عن إنجازاته، ويبحث بلا كلل عن معاني جديدة ويخلق أعمالاً تتجاوزه. إن الثقافة هي بعد أساسي في عملية التنمية وتساعد على تعزيز استقلال وسيادة وهوية الأمم. غالباً ما تم تصور النمو من الناحية الكمية، دون مراعاة البعد النوعي الضروري، أي إشباع التطلعات الروحية والثقافية للإنسان.
التنمية البشرية
تعد الثقافة أساساً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي هامة في تكوين الفرد، وإثراء وجدانه بالقيم، والتقاليد الأصيلة، وتنمية وعيه الثقافي، وعليه تمثل الثقافة ضرورة إنسانية، ولازمة لرقي المجتمعات، وتقدمها، فالثقافة وسيلة الإنسان للبقاء، والتطور، والتربية وسيلتها لحفظ التراث الثقافي، ونقله من جيل إلى آخر، فالتربية جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، وهي حلقة الوصل بين المجتمع، واتجاهات العصر الذي يعيش فيه، ولكل عصر أفكاره، واتجاهاته، وقوانينه التي تشكل علاقة الأفراد، والمجتمعات، وتؤثر على نوع الحياة بصفة عامة، وتهدف التربية إلى تنمية سلوك الأفراد في محيط ثقافي معين. وتعد المناهج، والكتب، والمواد الدراسية، وسائل لتحقيق هذا الهدف، وتهتم التربية بالثقافة وما تحتويه من تغيرات، وقضايا، ومشكلات من جهة، وبالفرد باعتباره إمكانية عظيمة ينبغي الأخذ بيديه، ومساعدته للوصول إلى أفضل مستوى من النضج النفسي، والاجتماعي ضمن منظور ثقافته، وتسعى التربية إلى ضمان سعادة الفرد، والجماعة، وإنتاج شخصية الفرد، وصقلها، بحيث تكون متكاملة من مختلف الجوانب.
وظائف التربية
تقوم التربية بوظائف رئيسة نحو المجتمع وتتمثل في الآتي: نقل الثقافة والتراث الثقافي من جيل إلى جيل، وهي وظيفة هامة وضرورية، فتنمو الحياة وتتطور وتتجدد، من خلال ترسيخ قيم ثقافية أصيلة، وانحسار قيم ثبت عدم مواكبتها لمتغيرات العصر ومستجداته لفترة طويلة. إن الهدف من التطوير الأصيل هو الرفاهية والرضا المستمر لكل فرد، ومنح جميع الناس الفرصة لتشكيل مصير أفضل، يجب تعديل وتيرة التنمية باستمرار. يريد الناس عالماً أفضل. إنهم لا يسعون فقط إلى إشباع الحاجات الأساسية، بل يسعون أيضاً إلى تنمية الإنسان ورفاهه وتعايشه بالتضامن مع جميع الشعوب. هدفهم ليس الإنتاج أو الكسب أو الاستهلاك في حد ذاته، بل هو تحقيقهم الفردي والجماعي الكامل والحفاظ على الطبيعة. الإنسان هو أصل التنمية. أي سياسة ثقافية يجب أن تعيد اكتشاف المعنى العميق والإنساني للتنمية. هناك حاجة إلى نماذج جديدة. وفي مجال الثقافة والتعليم يجب أن نجدها.
تنتقل الثقافة إلى الأجيال من خلال التعليم. فالمدرسة اليوم هي الوسيلة الرئيسية، ولكن ليس الوسيلة الوحيدة. يمكنها أن تتعايش، لكن تتباعد أيضاً، مع أنماط التعليم الأخرى، تلك الخاصة بالعائلة، الدين، البيئة الاجتماعية، وسائل الإعلام. يوضح هذا التحليل استخدام الفكرة الهوية الثقافية. إن الهوية لا تبقى ثابتة، بل تتغير أكثر أو أقل، تماماً كما يظل الفرد كما هو ويتغير. أن الثقافة تترجم إلى حقائق مادية، لكنه أيضاً وعي وتمثيل. إن الهوية الحية هي القوة التي تحيي المجتمعات البشرية وتعطيها التماسك.
تلعب الثقافة دوراً كبيراً في التنمية الاجتماعية للأطفال. وتركز معظم الدراسات عبر الثقافات للتنمية الاجتماعية للأطفال على الإطار الأخلاقي، حيث يُفترض أن البنى التي تم قياسها تكون ذات صلة عبر الثقافات. على سبيل المثال، يتم تقدير الاستقلال واحترام الذات في بعض الثقافات، بينما يعزز البعض الآخر الترابط والروابط الوثيقة. الاتجاه العام هو تفضيل الأطفال الذين يتمتعون بالمحبة الاجتماعية وغير العدوانيين على الأطفال الآخرين. تؤثر الثقافة على التنمية، لذا تتطلب الدراسات بين الثقافات لتنمية الأطفال اهتماماً خاصاً.
الاختلافات الثقافية
تشكل الثقافة الخبرات وتؤثر على نمو الأطفال. يدعونا هذا الموضوع إلى فهم العلاقة بين نمو الطفل وثقافته وكيف تظهر هذه التأثيرات وتأثير الاختلافات الثقافية على الأطفال. من خلال ثقافتهم، يتعلم الأطفال السلوكيات والمزاجات التي يتم تقديرها أو تثبيطها. ومعارف الأطفال مرتهنة بما يحيط بهم من تغيرات، والأطفال يتأثرون بعناصر ثقافية سابقة الرسوخ في مجتمعاتهم، وهذه المجتمعات نفسها عرضة لتأثيرات ثقافية متجددة لا تملك دفعاً للكثير من عناصرها. وهنا يقع الطفل في صراع ثقافي متعدد الأطراف، بين القديم والحديث، بين المحلي والخارجي.
إن الخبرات البشرية على اختلاف طبيعتها ومستوياتها وتنوعها، تنتقل من السلف إلى الخلف عبر الزمان والمكان من ناحية، وإن عملية الانتقال هذه يناط أداؤها بالكبار، وتقترن باستجاباتهم لما تتطلبه من نشاطات من ناحية ثانية. هذا هو واقع حال البشر وانتقال تجاربهم الثقافية وخبراتهم في الماضي القريب والبعيد، وفي الحاضر، وسيظل كذلك في المستقبل. وسيبقى الهدف هو تزويد الأجيال الصاعدة بالخبرات المتوارثة والمكتسبة اجتماعياً، ضماناً لاستمرار حركة التاريخ.
تلعب الثقافة إذاً دوراً إيجابياً في حشد الطاقات الوطنية. في حالات أخرى تلعب في الاتجاه المعاكس، خاصة عندما تحاول القوة التلاعب بهابهدف فرض سيطرتها وقمع التطلعات الديمقراطية. باختصار، تلعب الثقافة دوراً إيجابياً في بعض الأحيان وأحياناً سلبياً في التطور السياسي حسب الزمان والسياقات وطبيعة السلطة وعلاقة القوى الاجتماعية.
وختاماً لا بد من التذكير أن الفيلسوف الألماني هانز جوناس هو أول من وضع نظرية التنمية المستدامة في مبدأ المسؤولية (1979). ووفقاً له، هناك التزام بالوجود للأجيال القادمة، والذي يمكن أن يكون موضع شك من خلال الشكل الذي اتخذه التقدم التقني في الأزمنة المعاصرة. ولذلك، فإن الأجيال الحالية لا تضمن حقوق الأجيال القادمة، بل واجبها في الوجود. «إن ضمان التزام الأجيال القادمة بأن تكون إنسانية حقيقية، هو التزامنا الأساسي فيما يتعلق بمستقبل البشرية، والذي لا تنبثق عنه إلا جميع الالتزامات الأخرى تجاه الإنسان». لذلك فإن مشكلة التنمية المستدامة لا تنشأ فقط من زاوية الحقوق، ولكن من زاوية الالتزامات والواجبات.
التاريخ: الثلاثاء3-11-2020
رقم العدد :1019