لطالما شغل ذهني ذلك الموقع المسمى حقل الشاعر وحفز خيالي الدم العزيز الذي أريق فيه والقتال الشرس الذي اندلع حوله حتى التقيت بالصديق المهندس إبراهيم علي رئيس مجلس إدارة شركة ايبلا للنفط (وهي إحدى شركات وزارة النفط السورية المشغلة للحقل المذكور) والذي أطلعني على الجهود والإبداعات التي قام بها مهندسون وفنيون أكفاء استنقذوا من الخراب الأكيد منشأة مهمة ونجحوا بالتحدي بإعادتها إلى الإنتاج خلال زمن قياسي فور تحريرها عام 2017 بما يقارب 2.5 مليون م3 غاز و4500 برميل يومياً من المتكاثفات والنفط الخفيف إضافة إلى نحو 120 طناً من الغاز المنزلي، وإذ نتأمل في الأرقام، نجد أنفسنا أمام ربح هائل، مباشر وغير مباشر (عبر توليد الكهرباء ودورها في الإنتاج والإنارة).
بقي السؤال الذي كان لا بد من طرحه على هؤلاء الجنود المجهولين: كيف فعلتم هذا؟
وبعد تحرير الحقل تم الكشف الأولي ومعاينة الأضرار وتبين أن المحطة مدمرة بشكل كامل، ورؤوس الآبار ومنشآتها السطحية مدمرة إضافة إلى بئرين غازيتين مشتعلتين، وخطوط التدفق مدمرة، كما تم تدمير المحطتين النفطيتين بشكل كامل والمعدات الدوارة من ضواغط وعنفات ومضخات وغيرها، وتفجير مبنى السكن ومبنى التحكم والسيطرة ومبنى القيادة الكهربائية، فبفعل شظايا التفجير تطايرت أجزاء كافة المعدات وتشكلت فيها فتحات كثيرة بأبعاد مختلفة. وانصهرت أجزاء من أجسام المنشآت وتلاشت، وتم تفجير الأنابيب بشكل شبه كامل وكذلك الشعلة والمعدات الدوارة من ضواغط وعنفات ومضخات وغيرها وسرقة ما تبقى، وتفجير مبنى السكن وتعرضه لأضرار بالغة، وتدمير الهيكل المعدني الحامل للأنابيب، وتفجير مبنيي الكونترول ومركز التحكم بالمحركات الكهربائية بشكل كامل، وتحولت المحطة إلى أكوام من الركام (وفق الأنظمة العالمية لايتم اللجوء إلى التأهيل وإنما تتم إعادة إنشاء من جديد). ولم أكد أصدق عيني بعد أن عاينت صور الموقع قبل وبعد التأهيل إذ إن أحداً لن يصدق كيف تم إصلاح كل ذلك الخراب والدمار.
الدراسات الهندسية والتي كانت في السابق حكراً على شركات أجنبية تعمل من الخارج تمت هذه المرة بالاعتماد على الكوادر الوطنية وبحرفية عالية كذلك تم إعادة استخدام وإصلاح المواد التي تم فرزها من الركام وإصلاح الفواصل والتجهيزات المدمرة، مما أدى إلى توفير كبير في الوقت والمال الذي كان يلزم لتوريد المواد والمعدات من الخارج .وبالتوازي تمت عمليات تأهيل الآبار النفطية والمحطات النفطية وتأهيل الآبار الغازية غير المشتعلة ووضعها بالخدمة. وأيضاً عمليات الإطفاء والسيطرة على الآبار الغازية المشتعلة وتأهيلها ووضعها بالخدمة وعاد الإنتاج.
إن الحلول التشغيلية المرحلية فرضت وضعاً تشغيلياً يدوياً وبإشارات هوائية بالحد الأدنى، وإن هذا الوضع التشغيلي يتطلب وجوداً دائماً على مدار الساعة للمشغلين في الموقع لمراقبة البارامترات التشغيلية والتحكم بها بشكل يدوي عوضاً عن التحكم الآلي الذي كان يدير المحطة سابقاً كحل مؤقت بغية الإنتاج.
إن العودة إلى التشغيل الآمن للمحطة بشكل مؤتمت يتطلب استكمال تأهيل بناء التحكم الرئيسي وبناء السيطرة الكهربائية وبالتعاون مع الشركة السورية الروسية يجري العمل لتوريد وتركيب نظام التبريد والتكيف اللازم لتأمين الشروط التشغيلية المطلوبة وفقاً للعقد الموقع معها بما يخص عمليات الدعم الفني وعمليات إعادة التأهيل.
ما من شك أن هذا الخبر يحتاج إلى شرح معمق، فمن المؤسف أن تداولنا للأمور الإنتاجية ضئيل، تحجبنا عنها الاهتمامات الضاغطة بالحياة اليومية ولاسيما في جانبها الاستهلاكي.
لقد اقتربت سيرة الحياة في هذا الحقل من إتمامها من خلال استكمال إعادة تأهيل منشأة إنتاجية فائقة الأهمية كتجربة فريدة من نوعها على مستوى العالم، مجسدةً مثلاً فذاً للكفاح السوري من أجل الحياة الكريمة، كفاح تجلى في زمن الحرب بإقدام الجنود البواسل الذين حرروا الحقل بدمائهم، وشجاعة وإبداع العمال الأبطال الذين أعادوه إلى الحياة.
أروقة – ميشيل خياط