ما كنتُ أحبُّ أن أتحدَّث في هذا الأمر، فهو يبدو حالةً عارضة سرعان ما تزول حين يتعافى المشهد الثقافي في البلاد، لكن الحالةَ التي أعنيها لم تعد وَقفاً على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، فهناكَ لا حسيب ولا رقيب، ويمتلكُ بعضهم الجرأة في تسميةِ بغاثِ الطيرِ صقوراً وعقباناً، بل باتَ الأمرُ يصدمنا في معظمِ المجالسِ الثقافية، وعلى المنابر الخاصةِ والعامة، وعلى ألسنةِ مُقدِّمي البرامج الثقافيّة، بل وهنا الطامةُ الكبرى على ألسنةِ بعض الكَتَبةِ والحكّائين حين يتحدَّثُ أحدهم عن أديبٍ ما أو شاعرٍ أو ناقد…
وعلى ألسنةِ بعضِ المدّاحين الذين يديرونَ كثيراً من الأنشطةِ لغاياتٍ في نفوسهم ونفوسِ غيرهم.
ما أعنيهِ هو إسباغ صفاتٍ وألقابٍ ودرجاتٍ علميّةٍ غريبةٍ عجيبةٍ، ففلان شاعرٌ كبير، وتبحثُ عن السيدِ أو السيّدة المعنيّة فلا تجدُ لهما نصّاً واحداً يُعتدُّ به، وتستمع إليهما، فتستعيذُ باللهِ وبكلِ صاحبِ ذائقةٍ عاليةٍ سليمةٍ من كثرةِ اللحنِ في كلامهما؛ وعدمِ القدرةِ على الإمساكِ بزمامِ الوزنِ أو الإيقاعِ عموماً إن كان النصُّ موقَّعاً، ويُضجركَ الحشو والإطنابُ والتقليدُ والاسترسالُ المجانيُّ. وفلان ناقدٌ عظيم؛ والمسكينُ لم يُصدِر كتاباً واحداً في النقدِ، وجلُّ ما قدَّمه أنّهُ يُكثرُ من صعودِ المنابرِ الثقافيّة، بدعوةٍ من صاحبٍ أو من غير دعوة، ويخلطُ ويمزجُ مصطلحاتٍ سمعها هنا أو هناك، أو اقتنصها من هذا الكتابِ أو ذاك، فيُشكِلُ أمرهُ على محدودي المعرفة. وفلان روائيٌّ أو قاصٌّ كبير؛ وقد لا يعرفُ الموصوفُ من روائيي بلدهِ وقصّاصيه إلّا ما قرأهُ في منهاجِ المرحلةِ الثانويّة، أو ما تُقدّمُهُ بضعةُ برامج تلفزيونيّة قليلة جداً من أسماءٍ محدودة… إلى غير ذلك من اختلاطِ الحابلِ بالنابلِ بصورةٍ تنمُّ على ضياعِ المعايير، وغيابِ المرجعيّاتِ الفكريّةِ والثقافيّةِ والفنيّةِ الحقيقيّة، وهو ما لا يُبشِّرُ بالخير على الإطلاق.
والحق أنني لست ضدّ أن نجدَ من حولنا كتاباً وشعراء وفنانين كباراً بالفعل، فمن شأن ذلك أن يسمو بنا، ويرقى بذوائقنا ومشاعرنا وفكرنا ومعارفنا، لكن ما هكذا تكون الأمور؛ ثمَّ من قالَ لهؤلاء: إِن صفة: “شاعر” وحدها، أو “روائيّ” أو “قاصّ” أو “ناقد” قليلة، هل من السهل أن نصفَ إنساناً أنّه شاعر؛ كان أجدادُنا القدامى يقيمونَ الأعراس، ويحتفلون حين يولدُ في قبيلتهم شاعر، وهؤلاء أنفسهم أعني المبدعينَ لن يقبلوا أن يُطلقَ عليهم الآخرونَ ألقابَ التبجيلِ والتعظيم الجوفاء، إنهم كما وصفهم أنطون تشيخوف ذات يوم -والترجمة لمحمد بدران-:
“لا يتصنَّعون، فلا يختلف مسلكهم في الطريق عن مسلكهم في البيت.. ولا يتباهون بأنفسهم أمام مَن هم أقل منهم درجةً من رفاقهم.. لا يثرثرون، ولا يفضون بأسرارهم إلى الناس يرغمونهم على الاستماع إليها دون أن يطلبوها… يصمتون أكثر مما يتحدثون رأفةً منهم بآذان غيرهم من الناس… وهم لا يحقِّرون أنفسهم ليستثيروا شفقة الناس عليهم، ولا يلعبون على أوتار قلوب غيرهم ليرثوا لحالهم ويحسنوا الظن بهم… وهم بعيدون عن الغرور السخيف، لا يبالون بالعظمة الكاذبة… وإذا عملوا عملًا يستحق أن يجزوا عليه بدرهم لا يختالون به كأنهم عملوا ما يستحقون عليه مئات الدنانير… إن ذوي المواهب الحقة يحبون أن يبقوا على الدوام بعيدين عن أعين الجماهير، وهم أقل الناس إعلاناً عن أنفسهم.. وقد قال كريلوف: “إن الإناء الفارغ أعلى صوتاً من الإناء المليء”.
إضاءات- د. ثائر زين الدين