الملحق الثقافي – حامد العبد:
لعلَّ أوّل مرة طُرح فيها مفهوم الأمن الثقافي في وطننا العربي، كان في عقد السبعينيات من القرن العشرين. القرن الذي شهد في العام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف، انعقاد أول مؤتمر على مستوى وزراء الثقافة العرب، برعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وتحت عنوان “الأمن الثقافي”، وبعد أن استشعرت الدول العربية بداية هبوب رياح الغزو الثقافي “ليس عليها فقط، بل وعلى جميع دول العالم الثالث” القادمة من الغرب تحديداً.
على الرغم من ذلك، فإن مفهوم الأمن الثقافي لم ينل حقه من التقدير في ذلك العقد أو بعده بقليل، ربما لأن مستوى التنسيق والتضامن بين الدول العربية كان في حالٍ أفضل بكثير مما هو عليه الآن، وشعار القومية العربية كان أكثر حضوراً في وجدان الإنسان العربي ووعيه، ولكن هذا الأمر لم يطل كثيراً، فقد أصبح هذا المفهوم على لسان كل عامل أو مسؤول في مجال الثقافة العربية فيما بعد، وبالتحديد بعد استشراس العولمة أواخر عقد الثمانينات وحتى أيامنا هذه.
لا شك أن رياح هذا الغزو قد بدأت تجتاح مجتمعاتنا العربية منذ زمن بعيد، فالعرب الذين لم يستيقظوا من سباتهم الحضاري العميق والطويل، إلا على صوت مدافع “نابليون بونابرت”، وجدوا أنفسهم أمام فاتحٍ لم يجلب إلى بلادهم العلماء فقط، بل جلب أيضاً الكثير من الأفكار والقيم المقنّعة بشكل حضاري زائف.
بيدَ أن هذا الغزو لم يكن يمتلك تلك الوسائل والأدوات الإعلامية المتطورة كالإذاعة والتلفزيون والسينما. الوسائل لتي انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين انتشار النار في الهشيم، لتجد البشرية نفسها تعيش في حالة من التقارب الذي لم تشهد له مثيلاً من قبل، الأمر الذي حَدا بالمفكر الكندي “مارشال مكلوهان” لأن يُبشّر في ستينيات القرن الفائت بمصطلحات القرية العالمية”، والذي لم يتحقق بكل ما تعنيه الكلمة إلا في تسعينيات القرن نفسه، حين غزت آثار العولمة مناحي الحياة كافة ، وأخذت الكثير من التغيرات العالمية والتحولات الكبرى والتطورات السريعة توثر في حياة الإنسان العربي، وتغيِّر من عاداته وقيمه وتؤثر على منظومته الأخلاقية التي توارثها من جيل لآخر، لتحلّ محلها منظومة جديدة تقوم على فكرة الانبهار بالغرب والترويج باستحالة اللحاق به، والاهتمام بالمظاهر الزائفة وتعزيز النزعة الاستهلاكية لديه..
الأخطر من ذلك كله، حالة فقدان الثقة عند هذا الإنسان بنفسه وتاريخه أو تراثه، الأمر الذي فرض على هذه المجتمعات المستهدفة بهذا الغزو تحديداً، تحصين هويتها الوطنية في وجهه، وهكذا برزت أهمية مفهوم الأمن الثقافي.
إن جوهر أيّ غزو ثقافي يتمثل أو يتجسد في فكرة تفوق الثقافة الأجنبية على ثقافة شعبٍ ما، وخلق تباعد بين ماضي هذا الشعب وحاضره، الأمر الذي يؤدي إلى رفع شأن الثقافة الأجنبية وطمس معالم الثقافة الوطنية، وتراجع تقدير أبناء هذا الشعب (المغلوب سياسياً أو عسكرياً أو تكنولوجياً) لقيمِهم وقيمَتِهم بين الأمم، وإلى شعورهم بدونية مكانتهم الحضارية عند مقارنتها بمكانة الشعوب الغربية والأوروبية، فيقع أبناء هذه الشعب في حالة من التردد وتبني المواقف الانهزامية التي تشكك بقدرات أمتهم وقابليتها على التقدم، ولكي يصبحوا غير قادرين على اتخاذ مواقف حاسمة، وكل هذا من شأنه القضاء في نهاية المطاف على سيادة أمتهم أو استقلالها السياسي، أو عجزها عن تحرير الأراضي السليبة منها، وذلك من خلال أطروحات خطيرة مفادها أن الثقافة الوطنية المتوارثة أثبتت فشلها في خلق واقع معاصر ومتطور، وبالتالي لا ضير من التفريط بها بحجة النظرة الواقعية المزعومة للأمور، وعدم صلاحيتها أو جدواها في عالمنا المعاصر.
هنا يجد المجتمع المهزوم نفسه أشبه بالقط الذي يلعق المبرد، فكلَّما زاد انقياده وراء الثقافة الغازية، زاد تراجع مكانته الحضارية ليجد نفسه أكثر انجذاباً للثقافة الأجنبية مرة أخرى. ولعل من بين أهم ضحايا هذا الغزو الثقافي وهذه النظرة الانهزامية في وطننا العربي، اللغة العربية التي هي الحاضن والحامل الثقافي الأول للعرب وتاريخهم وتراثهم، حيث خذل هذه اللغة للأسف الكثير من أبنائها حدّ الاستهتار بها، وذلك من باب التقليد الأعمى للمجتمعات الغربية في جميع المجالات بما في ذلك مجال اللغة، دون أن يشفع عندهم تاريخها المجيد، ومزاياها الفريدة التي تتفوق بها على أي لغة من لغات الأرض.
شهدت بداية الألفية الثالثة انتصارات مذهلة لما صار يسمى ب-الثورة المعلوماتية -على الصعد كافة، وحملت معها عواصف سياسية وأمنية شهدتها الكثير من البلدان العربية التي راحت تعبث بخارطتها وكينونتها، حيث أصبحت تلك البلدان مرتعاً لطوفان من التعصب الديني والعرقي، وممراً أو مستقراً للإرهاب الدولي، والفقر والتشرد الذي حرم الكثير من أبنائها من تحصيل علمهم الدراسي، وحرموا من نعمة الاستقرار الذي روجَ لغيابه مفهوم هو من أغرب المفاهيم التي عرفتها البشرية عبر تاريخها، وهو مفهوم (الفوضى الخلاقة) الذي نادت به دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، ليتبعها بعد ذلك الثورات الهوجاء للربيع العربي المزعوم، وبلوغ الإسلام السياسي الرجعي للسلطة في كثير من دول المنطقة.
كل هذه التطورات، جعلت الإنسان العربي يجد نفسه واقفاً على أرضية تفتقر إلى الثبات والاستقرار، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام التيارات الفكرية المعادية. وهنا تبرز أكثر أهمية الأمن الثقافي كحصنٍ منيعٍ ضدّ كلِّ أشكال التطرف والتعصب والجهل، وضد التدخل الخارجي الذي يستهدف نسيج المجتمع لتمزيقه وإضعاف مناعته، دون أن يعني ذلك الانغلاق على الذات أو التقوقع باسم الخصوصية الثقافية، وعدم التفاعل الإيجابي مع الآخر، فبغض النظر عن سلبيات انغلاق أي ثقافة على نفسها، لم يعد هذا الانغلاق وعدم التفاعل خياراً متاحاً في عصرنا الحالي، كما كان يحدث في الماضي القريب عندما كان من الممكن السيطرة على وسائل الإعلام وتوجيهها حسب خطط مرسومة مسبقاً، وهنا لا بدَّ لنا كمجتمعات عربية لها تاريخها الحضاري الضارب في القدم، من أن نقدِّم للبشرية ثقافة واثقة بنفسها.. ثقافة تقف على دعامتين اثنتين، أولهما: التراث الخاص بها، وثانيهما :التراث الإنساني للبشرية جمعاء. ولعلنا نستطيع هنا أن نقتبس أحد الأقوال المأثورة ونعدل فيه فنقول: “إذا كان الانغلاق الثقافي من فضه، فإن الانفتاح الواعي من ذهب.”
من أجل بلوغ هذا الهدف، لا بدّ لمؤسساتنا الثقافية والتعليمية، من أن تعمل على تضييق الفجوة الفكرية بين الأجيال القديمة الناقلة لتراث الأمة، وبين أجيال الشباب التي تقع على عاتقها مسؤولية صون هذا التراث وإدخاله في الحياة المعاصرة، وذلك من خلال حثِّ هؤلاء الشباب على عدم الانبهار بقشور الحضارة الاستهلاكية، والانجرار وراء الدعاية الغربية، دون أن يعني ذلك تقديس ذلك التراث وعدم إخضاعه إلى مراجعات نقدية بنّاءة، وهنا تجد هذه المؤسسات والمجتمعات التي تقف وراءها. تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مرُّ، فإما أن تعيش في قطيعة مع هذا التراث بداعي الحداثة، أو تمنحه قدسية لا يصلح معها أيّ نقد أو تعديل.
29-12-2020
رقم العدد 1026