الثورة أون لاين – علي الأحمد :
بات تكريس الصورة وإبهار العين المؤذي ، الشغل الشاغل والهاجس الوحيد، لصنّاع الفيديو كليب في موسيقانا العربية، بما يعني ذلك من تغييب لطقوس التلقي، السمع بصرية المعهودة ، هذا الانزياح الكبير، في مجالات السمع والإصغاء، أدى في واقع الأمر، الى إفقار جانب مهم من جوانب العملية الابداعية التي تمر بها الأغنية العربية المعاصرة، حين يغدو القفز عن الحقائق الراسخة، نحو موجات التغريب والغربنة، بمثابة إنتقاص لدور هذا الفن في التعبير عن قضايا الوطن والإنسان الجوهرية، التي لازمته منذ أن وعى الموسيقي العربي على ضرورة تكريس هذا المسار وانعكاسه المهم تربوياً وأخلاقيا، على المتلقي العربي وإدراكه الذوقي والجمالي.
-وفي حقيقة الأمر، لايعلم أحد، المغزى الحقيقي لأغاني الفيديو كليب،الذي هو في الحقيقة، وكما نبّه اليه الكثير من الباحثين والمفكرين في العالم ” أداة بصرية لأمركة العالم،” عبر اندلاق الصور الحسية على هذا المتلقي ، من دون أية دواعٍ أوضرورة فنية، خاصة مع انتشار القيم الثقافية الوافدة التي تكرس نمطية سلبية عن المرأة، وتغييب دورها في الحياة والمجتمع ، أو حتى محاولة الخروج من دائرة التقليد الذي ينتشر بشكل كارثي في موسيقانا العربية، حيث تنميط الذوق الموسيقي في العالم بدأ يأخذ أبعادا سلبية على الشخصية الموسيقية الوطنية، وعلى عناصر الابداع في هويتها الأصيلة، وهذه مشكلة ثقافية لم تجد الى وقتنا الحاضر حلولا شافية، بالرغم من كل التوصيات المهمة وتحبير مئات البحوث والدراسات الموسيقية التي قدمها علماء وحكماء هذا الفن على مدار القرن الماضي الى يومنا هذا. ولقد لعبت المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد العربية دوراً لايستهان به، في صعود موجات التغريب والتقليد في الحياة الموسيقية العربية ساهمت تقنيات الاتصال والمنصات الإعلامية في تكريسها، خاصة مع غياب التربية الذوقية الجمالية عنها، بما أفسح المجال لدخول عادات ذوقية غريبة وشاذة، بدأت تنتشر بشكل كبير، في المجتمعات العربية العتيدة، التي اندمجت كلياً، في مسارات هذا التغريب عبر منظومة العولمة التي تهيمن على الانتاج والاعلام والنشر الموسيقي في العالم، بما غيّب خصوصية ومكتسبات الفنون الوطنية وتقاليدها العظيمة، التي أبدعها الفكر المعرفي العلمي، والروح الشعبية على مدار الأزمنة، وهو ما أوصل الحال، كما يُنبئ عنه منتوج هذه الصناعة الرديئة، الى إضاعة قيم التنوع الموسيقي الخلّاق الذي تحفل به هذه التقاليد لدى الشعوب قاطبة. والإكتفاء بلون موسيقي واحد ووحيد، يعتمد بشكل أساس، الإبهار ولاشيء سواه ، إبهار العين والذائقة، لفنّ ُمعلّب يلعب بإتقان وحرفية، على وتر الغرائز الحسية المريضة، بفعل التكرار والتعود، عبر تقطيع مجاني وسريع ، للصور التي تتلاحق وتتراقص في نتاجات الكليب العربي، ولدّت حالة من الإنفصام ، مابين ماتقدمه هذه النتاجات البائسة فنياً، ومابين الواقع العربي المثخن بالنكبات والانكسارات ، كما أنها بعيدة كل البعد عن خضم الحياة الواقعية وبالتالي، معالجة الكثير من القضايا والمشكلات التي تحفل بها المجتمعات العربية كافة. لكن، يسأل أحدهم، هل التسلية ومضيعة الوقت والمتعة البصرية تعني بشكل أو بآخر، تبرير كل هذا السخف والرداءة والعري الأخلاقي، الذي تعاني منه الأغنية العربية اليوم، “كلمات بذيئة منحطة وألحان مكرورة راقصة وماجنة” بمايعطي صورة نمطية سلبية عن هذا الفن الإنساني النبيل، الذي كان الى وقت قريب، مدعاة للتأمل والتذوق الجمالي، وإثراء عالم الإنسان العربي بنتاجات راقية تقرأ دواخله النفسية وتُجمّل الحياة بكل ماهو أصيل وجميل.
هذه الصور المندلقة على المتلقي العربي،كوباء الطاعون الأسود، باتت أداة حفر وتشكيل لوعي ذوقي مغاير يؤدي بالضرورة الى قطيعة معرفية مع فنون الماضي، بماتمثل من جماليات كلاسيكية، خلدها الزمن. إنها أغنية الحاضر المعولم، التي تزرع في نفوس الأجيال الفتية، إستثارة الغرائز الحسية، وحب الشهوات والاستهلاك المريض،والانتشار على السطح دون الغوص في العمق، ثقافة استهلاكية، تكرس الانفتاح والتغريب، في خطاب ثقافي مؤدلج، همه التسويق والربح، في حضور طاغٍ للمادة وكل ماهو مادي رخيص، والهروب نحو التجارة بالفن وذوق المتلقي، على حساب القيمة والتنوع وروح الابداع . يقول الموسيقار “حلمي بكر” :لو حاولنا تصنيف الألحان والأغنية الحالية فتحت أي مسمى تضعها؟ تحت مسمى ” سلّك وخليك جدع” ، أو ادفع وبلاش تبقى غبي، نحن في زمن أغنية ” الفهلوة” وشغل الحواة، ولايوجد لها تصنيف، إذ لايوجد شيء في العالم اسمه الأغنية الشبابية، توجد الطقطوقة والموال والأغنية الخفيفة، أما الشبابية فهي بدعة.لأنها أغانٍ معلبة، مثل المحشي،” بيحط الكلمة على اللحن، وبعدين يلفهم على بعض، وتبلعهم حضرتك ييجي لك تسمم.؟!!!