الثورة – تحقيق لمى يوسف:
خلو المراكز الثقافية من مرتاديها مشكلة معقدة مركبة لها أسباب عدة، قد يكون غياب جودة الفعالية الأدبية الفنية واستسهال الأدباء في طرح منتجهم الإبداعي، وعدم محاكاة الحداثة بما يلبي تطور الفكر والإبداع، وربما رحيل النقد الموضوعي عن صفحات الإعلام الذي يعمل على تصويب المهرجانات والمعارض والأمسيات الغنائية التي تحتضنها المراكز والمجمعات الثقافية، ضمن رحلة تحقيقنا مع بعض المثقفين في اللاذقية حول “خلو المراكز الثقافية، هل هو تغير في الأمزجة أم هزالة في الطرح؟.. كان النقاش نوعياً والوجع حاضراً لما آلت إليه هذه المراكز.
اعتذر البعض لأنهم لن يحابوا أحداً، وبذلك سيعتبر الكثير من المثقفين أنهم هدف للهجوم، وهناك من رأى أنه لا نفع من حديث قد يفتح الجروح المؤلمة في اللاذقية التي كانت محور الثقافة والإبداع.
فشلت في تحقيق المأمول منها
عمد الكثير من المبدعين في اللاذقية إلى نشر الثقافة طيلة السنوات الثلاثين الماضية، على حساب وضعهم المادي ولقمة عيشهم، وهذا أثر على تطور حياتهم الإبداعية.
في حديث مع الإعلامي سنان سوادي، أشار إلى أن المراكز الثقافية باعتبارها أحد أدوات الثقافة والمنابر التي يتم من خلالها نشر الوعي والمعرفة، فشلت في تحقيق المأمول منها والمرجو، وذلك لأسباب عدة، أهمها اعتمادها على الثقافة الموجهة ذات الرأي الواحد والفكر الواحد، بعيداً عن التنوع والتمازج والتشارك بين الثقافات المتنوعة والآراء المختلفة التي تزخر بها ثقافتنا ويتكون منها مجتمعنا، وتبنيها لخطاب مؤدلج، وعدم وجود رؤية ثقافية متجددة تخاطب جيل الشباب والثقافة السائدة، واهتمامها بإقامة فعاليات شكلية أمام الرأي العام والإعلام على حساب المضمون الهادف، واعتمادها على شخصيات وأسماء لا تنطبق عليها صفة المثقف أو المفكر، ما جعل المراكز الثقافية تفقد مصداقيتها ويخف حضورها ويقل روادها.
كما أن غياب الحرية يقيد أي إبداع، فلا إبداع من دون حرية، وليس المقصود هنا بالحرية المنفلتة من الضوابط والمعايير الأخلاقية والوطنية والإنسانية، بل الحرية المسؤولة التي يجب أن يتحلى بها المثقف والمبدع، وهناك عامل مهم وهو غياب الدعم المادي، فعلى سبيل المثال يكون ثمن الدخول إلى مسرحية مبلغاً شبه رمزي، والحجة التي تقال: إن ذلك بهدف نشر الثقافة، ولكن السؤال من ينصف الممثل والكاتب والمخرج؟
لا علاقة للتكنولوجيا
وأضاف: لا أعتقد أن التكنولوجيا كان لها أثر كبير في تراجع دور المراكز الثقافية، والدليل عندما يتم تقديم عمل مسرحي هادف يلامس حياة الناس يتكلم بلسانهم، ينقل وجعهم ومعاناتهم، يكون الإقبال والحضور كثيفاً، وعندما تقام أمسيات شعرية لشعراء معروفين وملتزمين أو حفلات موسيقية لفرق لها حضورها، يكون المركز الثقافي ممتلئاً بالزائرين من الأعمار والتوجهات كافة.
ورأى أنه لتفعيل المراكز الثقافية وإعادة دورها في تشكيل البنى الثقافية المجتمعية، لابد من دعم النشاطات الثقافية ودعم المثقف من جميع النواحي.
فعالية جامدة
لا يمكن أن يُخلق المرء مثقفاً أو مبدعاً إلا بعد أن تتلاقح ثقافة أسرته وأساسها مع ثقافة المجتمع والمدرسة، والعمل على تهيئة فكر الطفل، كونها ضرورة ملحة ليتمكن من فهم الإشكالات أو وضع البرامج اللازمة للنهوض بالثقافة.
في هذا الإطار لفتت الأستاذة لينا حداد- مدربة أنشطة باللغة الفرنسية لليافعين، إلى قضية ربما تكون الأساس في عدم اهتمام الكثير من ارتياد المراكز الثقافية قائلةً: الآن ترتاد نسبة لا بأس بها من قاطني اللاذقية أماكن التسلية الضارة والخالية من أي معرفة ثقافية بسبب المظاهر المجتمعية الخداعة، التي أصبحت مرضاً لا شفاء منه، إلا بالعمل على الفئة العمرية (4-14) من الأطفال واليافعين، وتأسيس فكرهم على نهل المعرفة والثقافة، وإسقاط هذه المظاهر من المجتمع.
وتابعت: لا تعطي المراكز الثقافية فكراً أو معرفة إذا لم يكن بناؤنا صحيحاً، فبعض الفعاليات الثقافية التي كانت تقام في المراكز، والتي تستهدف اليافعين، جامدة لا تعطي قيمة مضافة، معلوماتها قديمة خالية من الحداثة، فيهرب منها المستهدفون.
وترى حداد أن الإنسان دفع ثمن التطور غالياً بدخول التكنولوجيا الحديثة، وأصبح تنوع النشاط الثقافي قليلاً والإعلان عنه يقتصر على الصفحات الخاصة لجهة النشاط عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما يوجد جهل في صناعة الإعلان عن فعالية في أي مركز ثقافي أو مكتبة أدبية أو جمعية مهتمة بنشر الثقافة، إذ يخلو الإعلان من المحتوى الجاذب لمضمون الفعالية.
غياب حصة المطالعة
وأشارت أيضاً إلى ضرورة حياكة الرغبة بالمطالعة في تلافيف الفكر مع الطالب في المدرسة، مضيفة: للأسف منذ سنوات غابت حصة المطالعة- القصة باللغات الثلاث: عربي- إنكليزي- فرنسي، التي رافقت طلاب المدرسة طيلة سنوات دراستهم، فقد كانت تحث الطالب على القراءة، ما يغني الذاكرة والخيال، وبهذا الغياب فقدنا الفرصة الداعمة للطالب. فالمطالعة هي نشاط ثقافي إبداعي بمراحل مبكرة من العمر، تعطي أفقاً لرسم ثقافة المستقبل، بها يحلّق لينسج مجتمع هذه القصة في مخيلته.
حداد اعتبرت أن البدائل تكون بوجود دار ثقافي للمتقاعدين ينضم إليهم اليافعون والأطفال، الكيان الروحي للمجتمع، بهدف إيجاد جيل جديد مثقف واع ملم بثقافات متنوعة استقاها من جلسات الحوار والسرديات المتعددة عن تجارب المتقاعدين الناضجة، وما تحمله هذه التجارب من ثقافات أدبية فنية مجتمعية.
قوالب تكنولوجية
انشغل العديد من الناس بتأمين لقمة العيش أكثر من انشغالهم بالفكر والثقافة التي تأتي من المراكز الثقافية، ودخلت في حالة ثُبات، فلم يعد الاهتمام بحضور الفعاليات ضرورة، بل أصبح مضيعة للوقت. تقول الأستاذة ريما نزيهة- طالبة دكتوراه- كلية التربية: على الرغم من تعدد المدارس الفنية اليوم وتعدد المواهب وتشعبها في ميادين جمالية مختلفة، إلّا أننا اليوم “ضعنا” بين الكم والنوع من جهة، وبين الهدف من الفن وتسويقه من جهة أخرى.
إنّ العقدين الأخيرين اللذين مرتْ بهما سوريا كانا كفيلين بتهديم الفن بمعناه الفذّ- فلا وفاق بين الدم وحرف الروي!.. وأيضاً ما زاد من ركاكة الفن اليوم، هو ما وصل إليه هذا الكوكب من تقدم تكنولوجي، ساهم بشكل أو بآخر بتثبيط الإبداع، ووضعه بقوالب مسبقة الصنع، كالاعتماد على الذكاء الاصطناعي مثلاً، إلى ركوب أمواج غربية قد لا يوفق الفنان فيها، لكونها قد لا تناسب ثقافته أو بيئته الاجتماعية.
أمّا ندرة المعارض الفنية والأمسيات الشعرية والعروض المسرحية في مراكز الثقافة اليوم، فباتت واضحة، وقد يعود ذلك لقلة ثقة الفنان من أنّ أحداً ما اليوم ما زال يعطي الأولوية للفن مقابل الخوف ولقمة العيش.
تَجَسُّدُه برقيّ عوامله
و أوضحت أن مفهوم الدولة ككيان لا يتجسد إلا برقي عوامله، سواء الاقتصادية منها أم الاجتماعية أم الثقافية، وما كانت العوامل الثقافية تلك إلّا تعبير عن رقي الدول بغنى ماضيها وحاضرها، فلا شكَ أن الشعر والأدب والفن والمسرح هي من السمات الأولى للحكم على ثقافة بلد ما وتقدمه الثقافي.. فمن نزار قباني إلى أدونيس والماغوط، ومن سعد الله ونوس إلى ممدوح عدوان وغيرهم ممن صنعوا اسماً سوريّاً يعتدّ به.. ولا شك أن إيبلا وماري وتدمر وأوغاريت وحضارات عدة، أعطتْ هذه البقعة الجغرافية لزاماً ثقافياً، لا بدّ من توارثه كنهجِ لا رجوع منه. لكن أين كلّ هذا اليوم؟ فما عدنا نطرب لقصيدة، ولا تقشعرّ أبداننا من لون هنا وخطّ هناك!
صياغة فكرية
لدى الأغلبية رغبة في استقاء المعرفة الثقافية من الإنترنت بسهولة من دون اللجوء إلى المراكز الثقافية، فبعض الشباب يعتبرها جماداً لا تلبي احتياجاته ولا تعطيه المعرفة التي يريد أن يحدّثها كلّ حين.
يقول الشاب يعقوب الأحمد: أساس المعرفة التي قدّمت لنا في طفولتنا وزملائي، رسمت لنا المسار لتشكيل وصياغة فكرنا من خلال البحث والاستكشاف، كلّ فرد من المجموعة يقتني قصة مختلفة العناوين نتبادلها فيما بيننا، وهذا استمر إلى الآن، لكن عبر الإنترنت، كلّ منا يسحب كتاباً مختلفاً ويقرؤه ويمرره للآخر، فلا داعي لمضيعة الوقت وانتظارالساعات لحضور فعّالية شعرية، قصصية، أو غنائية، إن لم تكن ذات قيمة إبداعية عالية.
وقال: إن ما يجذبنا للذهاب إلى المراكز الثقافية خشبة المسرح التي لها سحر لا يقاوم، نفتقدها منذ سنوات، لا توفرها التكنولوجيا، كنا نتابع المهرجانات المسرحية التي تقام على خشبة المركز الثقافي العربي في اللاذقية، أو خشبة المسرح القومي، حين يكون المحتوى إبداعياً راقياً لا مانع من الانتظار لساعات من دون ملل، لكن غابت الأعمال الجيدة وأزاحت الستارة عن المتعة والفائدة.
أما صالات السينما فلها حديث آخر نحن كشباب حرمنا من شاشتها لغيابها عن جيلنا، لذلك نلجأ إلى الإنترنت لتنزيل الأفلام النوعية وعرضها في أحد منازلنا أو بعض المقاهي المجهزة بما يلزم العرض، بهدف سدّ هذه الفجوة.
البدائل
اعتاد مثقفو اللاذقية على ارتياد المراكز الثقافية بين الحين والآخر، لأنهم يرون أن هذا الطقس يجب أن يبقى، وأن يتشاركوا الآراء فيما بينهم حول كلّ أمسية أو ظهرية شعرية، قصصية، ندوة نقدية، معرض فني وهو ما يحصل في اتحاد الكتاب العرب، وجمعية العاديات على قلة الفعاليات.
سابقاً عملت جمعية مكتبة الأطفال العمومية نشاطاً شهرياً مستمراً منذ أكثر من عشر سنوات بإشراف المهندسة وصال يونس تحت عنوان :”فتح كتاب”، يشارك فيها نخبة من المهتمين بالثقافة والكتاب، ويقترح في كلّ جلسة عنوان لرواية أو مجموعة قصصية، كتاب فكري لكبار المبدعين على مستوى سوريا، الوطن العربي والعالم، يناقش الكتاب المستهدف بدلالاته الثقافية الواعية، الهاربة من الانحدارات التي تهاوت على تضاريسها الإصدارات الرخوة الهزيلة.
بدأ منذ أيام قليلة لقاء بعض المثقفين، أدباء وفنانين، في فسحة وليدة أدبية مجتمعية حوارية ضمن “صالون مناة الخير الثقافي”، حيّز صغير يتسع لعدد قليل من المشاركين، يتغيرون كلّ جلسة عند الرابعة من كل أربعاء مرتين في الشهر، يعطي الكثير من الأفكار النوعية، يتم طرح موضوع محدد يناقش بفكر ثقافي وخبرات متراكمة تعتمد على التجارب الشخصية، مرت ثلاث جلسات الأولى: للتعريف بالصالون وأهدافه، والثانية: ناقشت بعض المحطات المنيرة للشاعر بدوي الجبل في ذكرى وفاته الرابعة والأربعين، أما الثالثة: فتناولت “التربية خارج الإطار المدرسي- تقاطعات الثقافات والتجارب الشخصية” هناك الكثير من المهتمين بالسينما يلتقون لحضور أحدث الأفلام الحديثة ضمن العديد من المقاهي بتكلفة بسيطة، لإحياء الفن السابع كلّ حسب رغبته، لا يقتصر على مجموعة محددة، بل عدد كبير من المجموعات، كل واحدة تعلن عن الفيلم الذي سيعرض ويلتقون في مكان ليس كما صالة السينما وبلكوناتها، بل ضيق، لكنه يتسع لألف صديق يفترشون الأرض جلوساً ويتناوبون على المقاعد لا يهم، يلي ذلك ساعة حرة لنقاش محتوى الفيلم من سيناريو وإخراج.