تكتنز ذواكرنا زحمة من المشاهد الحياتية، لكن في لحظات، تجتاح ذاكرة المرء هزائم بفعل مكنوز المال النفطي الذي أصبح المغناطيس القادر على جذب الأقلام والفِكَرْ والفن وصولاً للثقافة الضحلة والعولمة الموجهة والأديان المسيسة التي تحتاج إلى عناية مشددة وجرعات متعددة لإنعاش أرواحها الصحيحة.
المال الخليجي وظف دون تنبه منا لدحر الحياة السليمة، من خلال دراما تحولها إلى حياة مَرَضية، تنتعش فيها الطائفية ضد التنوير، والانغلاق ضد البحوث، والتخلف ضد التعليم. وتسليط الضوء على البقعة المظلمة في أجهزة الأمن، لتتجسد للرائي على أنها مطحنة الناس، وعش الفساد الذي يفرخ حملة له في كل مفاصل الحياة.
تتناسى الدراما التوجه إلى الدور الحقيقي للأمن، في رصد بؤر الخيانة والعمالة والجاسوسية، لصالح أعداء الوطن.وملأت رائحة نفطها أنوف كتابها وصناعها فهي تدخل البيوت بغير استئذان.فتسلط أضواء التصوير وآلات التصوير لجذب الجمهور عبر فسحة الحرية والتنفس دون قيود لطرح الآراء المغمسة بالدولار الأميركي.
دولار يغتال القيم موجهاً رسائل جاذبة، لراءٍ متعطش لِمَا يلامس قضاياه اليومية المتعبة، بعدما تخربت المفاهيم لديه بسبب الحرب. فتراه يلاحق القضايا البوليسية المخابراتية على الشاشة. وهي تنال تأييد المشاهد، وتصبح حديث الشارع في زحمة الضغوط التي يعيشها المرء، لتصبح الدولة هي المدانة أمامه، خلف قضبان الاتهام.
تهيج هذه الدراما شعور القهر القسري لدى المشاهد فيصبح العدو المطلق لدولته، والأداة هنا أصحاب الفن وهواته وشخوصه ونصوصه. تقمع في داخل المشاهد الفكر التحرري الذي يواجه سلطة المال الخليجي، الذي يشتري الكاميرا والنص والإخراج على أنه المنتج السخي، الذي لا يبخل ليظهر أي عمل على أنه الأروع.
فن رخيص موجه لتشويه الفكر العربي؛ وليس السوري فحسب. عبر أعمال هابطة لكنها مهيجة لغرائز الحقد والإدانة. هنا تتراءى المعضلة الكبرى في قتل الإبداع الذي يتضاءل لدى حَمَلَتِهِ فطرياً أو أكاديمياً.. أما كان هذا هو إحدى أدوات الإرهاب الذي يمارس على المواطن العربي، لقتل عروبته والفتك بلغته، واغتيال هويته.
لأجل مال النفط، تتحاشى الدراما إظهار عمر نشوء هذه الدويلات القصير، المنتجة بمالها المزفَّر بدُسُم السم المحقون فيها. وأنها عابرة كنتوءات (الشرى) على جسد طفل ينتشر طفحه على جلده، يغيب بذات السرعة بعد دهنه بالمرهم المناسب.
تُراهُم أنقياء من الفساد الذي يصدرونه لنا، أم إن حكامهم أنزه من حكام الأقطار التي لا تضع التيجان على رؤوس حكامها. فتندثر بالمقابل ثورة يوليو عبد الناصر وتصحيح حافظ الأسد.لماذا لا تتحدث درامانا عن المال الذي صرف لتحطيم سورية واليمن وليبيا،الذي لو وظف للبحث العلمي لكنا بحق خير وأرقى أمة أخرجت للناس.
هل لنا أن نصوب ثقافتنا ونضعها على الطريق الصحيح .هل للأقلام أن تنساب على الورق، أو أزرار الحاسب، لتدب على سطحه مدونة حقائق ووثائق، تبرز خلاعة هذا المال ومالكيه، وممولي الدراما، السلاح الأكثر إما فتكاً، وإما تعزيزاً لقيمنا.
هل لنا أن نبحث نحن مكتنزي الذاكرة في زواياها لننظر في دموع أمهات الشهداء وشقوق أكف من يسقين تراباً يضم أبناءهن، أكف كانت تفلحها وتزرعها، أو تجمع منها الشيح والزعتر البري والزوفا. والورد الذي تهديه لابنها العائد في إجازة.
هل لنا أن نوجه أجهزة التصوير لأضرحة الشهداء؛ وأطفالهم يلعبون بينها، غير مدركين مستقبل أيامهم، يجمعون شقائق النعمان يضعونها على قبورهم ..هل لنا رغم خجلنا منهم ومن أبنائهم، أن نمتطي صهوات جياد تحرير فكرنا، فنتوجه لدحر الفساد في مرافق حياتنا ، ومن بين صفوفنا. عندها تزهر الأيام وتبرق الأحلام.
إضاءات – شهناز صبحي فاكوش