الثورة أون لاين – ديب علي حسن:
ثمة قفزات وإنجازات تقنية حفرت مجراها في المشهد الثقافي والمعرفي وبالتالي سلوك البشر يمكن الإشارة بسرعة إلى أن أولها كان اختراع الحرف الذي أنقذ البشرية من ضلالات الضياع المعرفي والعالم كله مدين بذلك لأول أبجدية هي من أوغاريت.
القفزة الثانية مع الطباعة وما تركته وفعلته والثالثة هي الإرسال عبر الراديو أو التلفاز أو السينما..
ثم لتكمل بالانتشار الفضائي وآلاف المحطات الفضائية وكلنا يدرك ما تركته وما تزال من أثر..
القفزة الأكثر صخباً والتي ترافقنا في حلنا وترحالنا نومنا ويقظتنا ..حزننا وفرحنا بكل ما فينا ولنا وحولنا كأنها نبض الحياة ..قفزة الإنترنت وما اشتقت منه ..مواقع تواصل وغير ذلك ..
اليوم لم يعد يمكننا القول إننا نعرف ما يجري في العالم أبداً..لقد تحول العالم على ضيق المساحة بفعل النت تحول إلى مجرة بعيدة ملايين السنين الضوئية ..
قد تكون قرب زميلك ..ابنك ..أخيك ..قد تكون تحت اللحاف وأنت تعبث بالمحمول لا أحد يدري ماذا تكتب وماذا تفعل … أليست هذه الغربة الحقيقية..
ومن باب الطرافة يروى أن سيدة أرسلت طلب صداقة لزوجها باسم مختلف.. وكانت الحوارات بينهم …تقول ..لقد أعجبت به في هذا الفضاء الأزرق كم هو راق حضاري ..ملهوف على الإنسانية حتى تمنيت أن أتزوجه لو كان غير زوجي …لكنه هو بعينه …ما إن يعود إلى الواقع حتى يزمجر ويخرج أسوأ ما لديه…
يظهر الواقع عارياً من كل محسنات المكياج الأزرق ويغيب جمال المواقع وتبدأ رحلة الشتات النفسية والفكرية والضياع ..
وإذا ما تركنا أبسط القصص اليومية هذه وتوجهنا إلى قصص من ينصبون أنفسهم قادة للعالم ..ترامب ..مثلاً ..سنرى كيف تعاملت معه إدارة هذا الفضاء الأزرق من إلغاء وتعطيل حساباته ..ولا يظنن أحد ما أنهم يفعلون ذلك حباً به وله ..إنما هذه رسائل غير مباشرة إلى العالم كله إننا نحصي أنفاسكم.. نعرف ما تسرون وتعلنون ..
لستم إلا أرقاماً ومعطيات والمحصلة دمى زرقاء تديرها الشركات كما تريد وتعمل وفق خلاصات البيانات …ألم يقل أحد منظري الاقتصاد العالمي ذات يوم …البيانات هي نفط العالم الآن..
من هنا علينا أن نفهم لماذا استحوذت شركة فيسبوك على الوتس أب التي تريد ربط بيانات مستخدميها مع الفيسبوك ..
وكان أن أعلنت شركة تلغرام زيادة المستخدمين لتطبيقها ليصل إلى أكثر من ٥٠٠ مليون بزيادة كبيرة..
بين الواقع والمواقع نشأ التيه البشري والحضاري والقيمي والأخلاقي..
لا أحد يمكنه أن يوقف هذا التسارع الهائل في انتشار التطبيقات ولا سيما أن المحمول جعلها كرفة العين لا تفارقنا ..
وما بين الحقيقي و الافتراضي ثمة مساحات من العمل وثمة من يترصد ويعمل ويخطط ويفتك بالجميع ..
هنا يبدأ الدور الحقيقي للهوية الوطنية والانتماء والقدرة على التحصين ..والانغماس بجذور الحياة لا أن نكون اشنيات هلامية تكبر لتصبح خلايا سرطانية تبدو للناظر كأنه لحم وصحة وهي ليست إلا ورماً خطراً لا بد من تحصين أنفسنا لئلا نصل إليه.. وبعبارة أكثر دقة…لنكن على صلح مع أنفسنا ولننغمس بالحياة والعمل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ..الواقع مهما كان مراً هو نسمة الأمل لا المواقع التي تجعلنا ذرات متلاشية في مجرات بلا قرار ولنكن قادرين على محاولة ملء المواقع بشيء من الواقع.