الملحق الثقافي:أمجد سيجري:
تعتبر شجرة الغار، أو «الرند»، إحدى أهم الشجيرات التي تنمو في جبال حوض المتوسط عموماً، وفي مناطقنا خصوصاً، فمن المستحيل أن تمشي بضعة أمتار في جبالنا، دون أن ترى شجرة رندٍ منبثقة من عمق الأرض، وتفوح منها رائحة مشبعة بالحياة.
منذ القِدم، وللغارِ مكانة مرموقة لدى الإنسان، ولقد تمَّ استخدامه في عددٍ من المنتجات أهمها، صناعة العطور والصابون، وكان يتمُّ ذلك عن طريق استخراج زيوته، من البذور التي تنمو عليه بطريقةٍ مشابهة لطريقةِ استخراج زيت الزيتون، ويُعتبر صابون الغار الحلبي من أقدم وأشهر أنواع الصابون في العالم، وهو مكوَّن من مجموعة زيوتٍ رئيسية، هي «ﺯﻳﺖ ﺍﻟﺤﺒﺔ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﺀ، ﺯﻳﺖ ﺟﻮﺯ ﺍﻟﻬﻨﺪ، ﺯﻳﺖ ﺍﻟﺰﻳﺘﻮﻥ، ﺯﻳﺖ ﺍﻟﻨﺨﻴﻞ، ﺯﻳﺖ ﺑﺬور ﺍﻟﻘﻄﻦ»، إضافة إلى المكون السحري لهذا الخليط، وهو زيت الغار الذي تطغى رائحته على المزيج.
يعد إكليل الغار، أحد أشهر استخدامٍ عطري، وبطريقةٍ غير صناعية على الإطلاق، وقد اعتُبر منذ القدم رمزاً للنصر والشرف والنبل، لذلك كان يتمُّ ارتداؤه حول الرأس، أو حول الرقبة، وكثيراً ما كان يُرتدى بدل التيجان لدى الملوك والأباطرة، وحتى الآلهة، حيث عُثر على عددٍ من العملات المعدنية الفينيقية في جزيرة أرواد السورية، وقد تمَّ صكَّها في صور، وعلى أحد وجوهها نُقش «الإله بعل»، يرتدي إكليل الغار على رأسه.
يعود تاريخ هذه العملة إلى القرن الرابع قبل الميلاد، كما نجد في الأساطير اليونانية ذات التمثيل، فنجد الإله «أبولو»، وهو يرتدي إكليل الغار على رأسه، ونجد «عُقاب بعل شامين»، في النقش التدمري، يحمل في منقاره غصن الغار، في دلالاتٍ شتى تتعلق بالنصر والخصوبة الزراعية.
وفي اليونان القديمة، تمَّ منح أكاليل الغار للفائزين في «مسابقات بيثيا» Pythian game المخصَّصة للإله «أبولو» و»بيثيا»، وهي كاهنة «معبد أبولو» في ديلفي.
نشأت هذه المنافسات في القرن السادس قبل الميلاد، وتتمثَّل بمنافساتٍ في الفنِّ والرقص، ثم تطوَّرت لتشمل مسابقات رياضية، وهذه الألعاب حسب الأساطير اليونانية، بدأها الإله «أبولو» بعد أن قتل التنين Python» بايثون» حارسة مركز الأرض، كتكفيرٍ عن قتله لهذه الأفعى الضخمة التي كانت تعتبر روح الأرض، وهي قصة تُقارب قصة قتل الإله «بعل» للحيّة «لوتيان» الملتوية في الميثولوجيا الكنعانية، وأيضاً، قصة قتل «مردوخ» لـ «تيامات» في الأساطير البابلية.
يذكر الشاعر «لوقيان السوري»، أن «بيثيا» كاهنة معبد «أبولو»، كانت تمضغ أوراق الغار التي كانت تحضرها من شجرة مقدَّسة تنمو داخل المعبد، وكانت تعطِّر نفسها بها، للنطق بالنبوءات التي كانت تشتهر بها.
وفي كتاب التحولات للكاتب «أوفيد»، والذي سبق وكتبنا منه قصة «بيرم وتسبين»، يذكر حكاية الحورية «دافني التي عشقها «أبولو» بجنونٍ، في الوقت الذي كرهته فيه، بسبب إطلاق «إيروس» المعادل لـ «كيوبيد» الشهير، سهمين أحدهما برأسٍ ذهبي أصاب «أبولو» وجعله يعشق الحورية بجنون، والآخر رأسه من رصاص، جعل «دافني» تكره «أبولو» جداً، بل تلجأ إلى آلهة الأرض لتخليصها من هذا المأزق، وكان الحلّ بتحويلها إلى شجرة الغار، واليوم «دافني هو الاسم اليوناني لشجرة الغار، ولا ندري من الأقدم، الاسم اليوناني أم الاسم الآرامي، فالغار بالآرامية هو «دَفينا» وهذا صعب نسبياً لتداخل اللغتين في القرن الرابع ق. م، العصر الهيليني، لكن نجد في اللغة «الكنعانية – الآرامية» التي جدَّدها اليهود باسم «اللغة العبرية»، احتواءٌ على كلمة الغار بالشكل الآرامي «دَفينا» بالتالي نرجح الاسم الشامي للغار، كمصدر لاسمِ الغار الإغريقي، وهو اسم بطلة الحكاية الإغريقية.
أيضاً، ارتبط الغار ارتباطاً وثيقاً بالأباطرة الرومان، حيث يروي المؤرخ الجزائري المولد «سويتونيوس» قصة «ليفيا دروسيلا»، أول إمبراطورة في روما، والتي زرعت غصناً من الغار في أرضية الفيلا الخاصة بها Villa of Livia ، وذلك بعد أن أسقط نسرٌ دجاجة في منقارها غصن غار، على حضن الإمبراطورة، فزرعت هذا الغصن، ونما إلى أن أصبح شجرة كاملة الحجم، ثم أصبح بستاناً كاملاً من أشجار الغار، فقد كان كل إمبراطور يزرع مع كلِّ انتصارٍ له، شجرة غار تخليداً للنصر.
تحليل رمزية الغار:
الاسم العلمي لشجر الغار: «الرند» هو Laurus nobilis
لاوروس :Laurus كلمة لاتينية تعني الغار، وبالإنكليزية هي laurel ومنها الاسم الشهير، لورا أو لوريس، وكلاهما يعني الغار، وفي الفرنسية القديمة lur لور.
نوبيليس :nobilis ومنها الإنكليزية noble والمعنى واضح بالعربي، فهو النَبيل، ويعني أَصِيل، جَلِيل، حَسِيب، ذُو أَصْلٍ كَرِيم، رَصِين، رَفِيع، سَامٍ، شَرِيف، شَهْم، فاضِل، كَرِيم المَحْتِد، نَجيب، شَرِيف.
إذاً، من الاسم العلمي للغار، نجد أنه ارتبط منذ القدم بالنُبل noble بالتالي احتوت رمزيته على عدة صفات أهمها:
الشرف والأصالة والمجد والنصر، وبالتالي ارتبط دوماً بمن يقوم بفعلٍ محبَّذ من قبل الأكثرية، فنجده مرتبطاً بالسلالات المرموقة، والأباطرة والملوك والأشخاص المتمتعين برؤية ثاقبة وغير مألوفة، وبمعارف فكرية عليا كالشعراء والفنانين والفلاسفة والمفكرين، ممن نجدهم يرتدون أكاليل من الغار، كانت دائماً تأخذ شكلاً دائرياً، إما بدائرة كاملة، وإما دائرة منقطعة بشكل حدوة الحصان.
كما ارتدى إكليل الغار، من تمتَّعوا بصفاتٍ روحانية، كالكهنة والأنبياء، وكذلك تماثيل الآلهة المختلفة، فنجد في العملات الفينيقية، ارتباط إكليل الغار بالإله «بعل» الذي اعُتبر عند الفينيقيين، إلهاً للحرب والأمطار والعواصف، والذي يساوي في هذه الخصائص «زيوس»، وكان أيضاً للشكل الدائري لإكليل الغار، دلالة روحية تعبِّر عن الأبدية التي كانت تمثل الآلهة.
بكلِّ الأحوال، نحن نعلم أن الغار نباتٌ دائم الخضرة، فهو يشكِّل رمزية للخصوبة الزراعية الدائمة، التي تمثل رمزاً آخر للأبدية والخلود، لذلك كان ومازال، الممثل الرئيسي للنصر والشرف، والإنجازات الفكرية التي تحمل الخلود لصاحبها.
التاريخ: الثلاثاء23-2-2021
رقم العدد :1034