الثورة أون لاين _ فؤاد مسعد:
تطوير وتحديث التراث الموسيقي موضوع قديم متجدد خاصة أن التراث منهل ثر للكثيرين إلا أنه يحتاج لمن يعرف كيف يغرف من معينه محافظاً عليه ومطوراً ضمن الأصول الموسيقية ، بعيداً عن مشوهي الذائقة والمتسلقين الذين يجدون فيه طوق نجاة ومجالاً لتسويق أنفسهم كدعاة إبداع يعبرون من خلالها إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور ، دون إدراك (ربما) عن مقدار الجريمة التي يتم اقترافها بحقه ، تلك الجريمة التي ترتقي إلى مصاف تصنيفها بجريمة من الدرجة الأولى ، واليوم ما أكثر مدّعي الإبداع .
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن خاصة أن عمالقة الفن عملوا على تطوير التراث واستلهموا منه وقدموه بطرق فيها نوع من التجديد يصل أحياناً حد الجرأة ، ما النواظم التي تحكم النهل من التراث ؟ ومتى يكون تطوير التراث الموسيقي تجديداً وتحديثاً ومتى يتحول إلى تشويه وتحريف ؟.
ـ توزيع بسيط ومدروس :
يشير عميد المعهد العالي للموسيقا وقائد الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية المايسترو عدنان فتح الله إلى أننا في سورية نتميز بتراثنا وتنوعه لأنه مرتبط يتنوع الحضارات التي مرت على الأرض السورية ، يقول :
من واجبنا كموسيقيين الحفاظ والتشبث بالتراث وتقديمه بطريقة فيها جودة أكبر واعتناء بالتفاصيل وتقديمها بطريقة منتظمة ، ويمكن للتراث أن يحتمل توزيعاً بسيطاً مدروساً بشكل لا يخدش بناءه اللحني والموسيقي ، هذا البناء المرتبط بالبيئة والتاريخ ، وهذه البنية المبنية على مقام معين كان يُطرب له أهالي منطقة ما أو أغنية مرتبطة بحدث بهذه المنطقة أو تلك ، فينبغي أن نحافظ على الكلام والصبغة بطريقة جيدة وبجودة أكبر ، ولكن للأسف نرى اليوم تيارات تحاول بشكل مقصود تشويه التراث وأخذه إلى مكان ليس بالجيد وتُسمِع الجيل أغاني تدّعي أنها تراثنا , وهذا الأمر يعتبر جريمة بحق التراث ، والعديد من الفرق والمغنيين يغنون أغنية لاصقة في ذاكرة الناس بمقام معين فيقدمونها بمقام مختلف ، وهذا أمر معيب ، فينبغي أن يكون هناك نوع من الرقابة على موضوع التراث وتصديره ، لأن أي تغيير في بنيته الأساسية يعتبر مخالفة .
وفي رده عمن يقولون أنه ليس هناك وثيقة رسمية توثق التراث الموسيقي يؤكد أن تواتر انتشاره من مئتي أو ثلاثمئة سنة ليصل إلينا هو أمر بحد ذاته يعتبر وثيقة ، يقول : هناك فرق كبير بين أن أقدم التراث وأوثقه بطريقة أكاديمية فأعتني بالتفاصيل والأداء وبين أن أضيف له توزيعاً بعيداً عنه ، و إن أردنا كموسيقيين أن نبتدع أغاني فعلينا تقديم أغانٍ ذات قيمة فكرية من الناحية اللحنية ومن الناحية اللغوية والفكرية كي ترقى مع الأيام وبعد ثلاثين وأربعين سنة لأن تكون تراث تردده الأجيال ، كما أنه من واجبنا تقديم التراث وتوثيقه شرط ألا نخدش من طبيعته .
ـ العمل وشخصية الأغنية :
(من حق أي موسيقي أن ينظر إلى التراث على أنه ألماسة ينبغي إعادة صقلها ، ولكن ليس على أنه زجاجة تحتاج إلى الكسر) بهذه العبارة انطلق مؤسس جوقة لونا ومعاون مدير الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون الأستاذ حسام الدين بريمو حديثه عن آلية التعاطي مع التراث ، يقول :
إعادة صقل تراثنا وتقديمه بشكل جديد لجمهورنا يعني أننا نحب هذا التراث كما هو ولكن نحب أيضاً تقديمه بشكل آخر ، أي أننا لا نجعل منه جميلاً وإنما نضيف جمالات جديدة لكائن جميل أصلاً ، ومن وجهة نظر العلم لا يحق لنا ونحن نطور أغنية أن نغيّر مقامها ، لأننا بذلك لا نطور وإنما نغيّر ، والفرق كبير بين أن نغيّر أغنية بتغيّر مقامها وبين أن نطورها ، فتطويرها يكون من خلال تعديل التوزيع الآلي للموسيقا المرافقة وتنويع هذه الموسيقا شرط أن يبقى كل من اللحن والمقام والإيقاع كما هي أصلاً لأنهم شخصية الأغنية ، أي أن تبقى القطعة الموسيقية كما هي واللحن واضح ، وإن أحببت أن تقدم توزيعاً كورالياً وتضيف ألحاناً للّحن الأساسي فهذا ممكن على ألا يضيع اللحن . ونحن نتعامل مع هذا الموضوع في جوقة “قوس قزح” فنأخذ قطعة موزعة من جديد ونغنيها ، وقبل تقديمها نعرض فيديو صغيرا لموسيقي آخر يقول رأيه بالموسيقي الذي قام بالتوزيع ، وبذلك نكون قد طرحنا وجهة نظر كل من الموزع الموسيقي والموسيقي الذي أعطى رأيه وبعد الحفل نقيم ندوة مع الجمهور الذي يعطي رأيه بوجهتي النظر ، رأيه بالموزع إن جمّل أم قبّح ، شوّه أم نوّع ، ورأيه بالموسيقي الآخر .
وحول من اشتغلوا في تطوير التراث يؤكد أن هناك العديد ممن يعملون في هذا الحقل ولكل منهم طريقته ، ويذكر عدداً منهم ، يقول : هناك الموسيقي عاصم مكارم الذي يقدم توزيعاً ناعماً يُظهر اللحن الأساسي ولا يضيف إضافات تُثقل اللحن ، الموسيقي كمال سكيكر الذي يقدم هارموني قد يكون جريئاً فينجز هارموني لربع التون وللبيات والراست ولكن ضمن إطار تسمع فيه اللحن الأساسي وإن كانت الأصوات المرافقة قد تُشعرك بشيء من الدهشة ، الموسيقي الياس زيات الذي يعتمد في التوزيع على التنويع في الآلات الموسيقية أكثر منه تنويع في الهارمونيات الكورالية ، الموسيقي وسيم ابراهيم جريء جداً في التوزيع فهو لا يحافظ على اللحن فقط وإنما يعطي الهاروموني الذي يقدمه بعداً آخراً جميلاً بحيث لا تفقد اللحن الأساسي وتشعر بالبهجة التي يخلقها الهارموني مع اللحن ، كما نتعامل مع الموسيقي د.إدوار توريغيان من لبنان الذي يقدم تطويراً جميلاً للحن بحيث يخلق دهشة هارمونية ، والموسيقي عدنان فتح الله الذي قدم نتائج جميلة وقد قدمنا له في اللاذقية عملاً سماعياً لقي ترحيباً شديداً.
ـ روح التراث :
يؤكد المطرب شادي جميل أنه جدد وأضاف للتراث ولكنه لم يبتعد عن (السكة) وضمن هذا الإطار يتحدث عن النواظم التي تحكم النهل من التراث ، يقول : النواظم التي تحكمه روح التراث ومنهجه ، فينبغي أن يحافظ الفنان على الميلودي ولا يغير فيه ، ويبقى لكل فنان أن يغني بروحه وطريقته وأسلوبه ، ولكن عندما يغير في الميلودي وأساس اللحن عندها يشوهه .
أما المغنية ليندا بيطار أستاذة الغناء الشرقي في المعهد العالي للموسيقا فترى أنه طالما تم المس باللحن وأساسيات التراث فمعنى ذلك (تشويه) فهناك العديد من الفرق الموسيقية التي تناولت الأغاني التراثية وغيرّت مقامها ، تقول : (كيف تغير مقام أغنية تربينا عليها لمجرد أنك تريد تقديم ما هو جديد ، في حين يمكنك أن تقوم بالتوزيع مع الحفاظ على اللحن الأساسي ، وعلى سبيل المثال عندما أستمع لأغنية “يا بو ردين” من مغنيها الأصلي وأجد أن أحداً ما قدمها وغيّر مقامها وايقاعها فأشعر أن هذا الأمر يمسني لأني مدرسة غناء عربي ومن واجبي عندما أنقل ما له علاقة بالتراث أن أفعل ذلك بمصداقية عالية) .
وتتحدث بيطار عن تجربتها مع الموسيقي اللبناني لوقاس صقر، تقول : (قدمنا وصلة من التراث وهو أنجز الوصلة عن طريق الكلمة وليس المقام ، فأوجد دوراً للبيانو رغم أنه لم يكن موجوداً بالأصل ولكني غنيت اللحن الأساسي ، وبالتالي لا أمانع أن يتم التوزيع ويُقدم بصورة جديدة على ألا يتم الاقتراب للمقام واللحن والكلمات ، فاللحن والكلام هما أساس الأغنية) ، وحول إن كان للجمهور القدرة على التمييز وسط كل ما يُقدم من أغانٍ وموسيقا تراثية تؤكد أن هناك فئة كبيرة تستطيع التميّز ، ولكن علينا قدر المستطاع إيصال الفكرة بشكل صحيح للناس، تقول: للأسف خلال فترة الحرب على سورية بات لدينا فرق أزمة ومغنيو أزمة ، ولكننا نحاول ما نستطيع للحفاظ على ما لدينا من تراث .