الملحق الثقافي:الهام سلطان:
مع أنه تجاوز التسعين عاماً، إلا أن نظرته ما زالت ثاقبة، وذاكرته متقدِّمة، وخطوط قلمه متناسقة، وفي داخله الكثير ليكتب ويؤلّف ويبدع.
من ألبانيا إلى دمشق، هاجرت أسرته المتواضعة، وفي منطقة القزازين، شهدت عيناه النور عام ١٩٣١، عمل والده مستخدماً في مدارسها، وكانت أمّه ربة منزل، تشجّع أولادها على العلم، وأمنيتها حصولهم على أعلى الشهادات، وأخواته “خديجة و”عائشة” شاعرتان، وهو فنان مبدع، وعلمٌ من أعلام الفن التشكيلي السوري.
إنه الفنان “عبد اللطيف الأرناؤوط”.. أيضاً، الكاتب والقاص والروائي والمترجم، الذي بدأ خطواته من الديوانية في منطقة “العدوي” التي يسكن فيها، إلى مدرسته “الملك الظاهر”، وكان يمشي إليها يومياً، لمدّة نصف ساعة أو أكثر.
بعد الخطواتِ.. بدايات:
إن الظروف القاسية التي عاشها، هي التي حدّدت مستقبل القادم من أيامه، وعندما فكّر وهو صغير أن يترك المدرسة ليعيل أسرته، فقدت أمّه صوابها، فضربته وحذّرته من تكرار قول ذلك.
هذا اليوم لا ينساه، لأنه كان مفتاح طموحاته، والقادم من حياته، يوم قيل له: “سوف تكون كاتباً”.
حُفرت هذه الكلمات في ذاكرته، وكانت أشبه بسيمفونية تطربه، ومُذ كان في الإعدادية، وقالها له مدرّسه التونسي، بعد أن أُعجب بما كتبه في موضوع الإنشاء.
في جريدة الحائط بالمدرسة، كتب أوّل مقالٍ له: “لو كنتُ مديراً”، وفيه انتقد إدارة المدرسة، فوبّخه المدير ولم يعجبه المقال، وقال له: “هل تظنُّ نفسك كاتباً”ّ؟.
في تلك المرحلة، كتب في جريدة “البعث” بعض القصص والمشاهدات التي كانت تتعلّق بالحياة اليومية، وما يلفته من صور الطريق، وحكايا الأصدقاء، وغير ذلك مما أهّله، لكتابة زاوية.
كتب أيضاً، في الصحف السورية التي كانت تصدر آنذاك: جريدة دمشق المساء، عصا الجنة، الدنيا، النضال، الرسالة..
استمرّ بالدراسة والكتابة، إلى أن نال الشهادة الثانوية، ولم يكن وضع عائلته المادي يسمح له بدخول الجامعة، لكن، ساعده صديقه “ياسين بعلي” على التسجيل فيها، وفاجأه بعد عدة أيام بالبطاقة الجامعية التي وضعته أمام قدره المرسوم.
سجل في قسم “اللغة العربية”، وبدأ يترجم إليها من الألبانية، وكان أول ما ترجمه: “مئة أغنية وأغنية”، وأول مبلغ قبضه، 200 ليرة سورية، وهي عن مقالة “الشعب الألباني المناضل”.
من هنا، أصبحت مقالاته تنتشر بسرعة، وكثر قرّاؤه، وكانت هذه المرحلة أهم مراحل حياته، فقد استطاع وهو لايزال طالباً جامعياً، تأليف كتاب بعنوان “دروس التعبير والقصص” الذي تمّ إدراجه في المناهج التعليمية، للصفين الثالث والرابع، في المرحلة الابتدائية.
أيضاً، وتحت عنوان “الأخطاء السائرة” في اللغة العربية، ألّف كتاباً صحّح فيه الأخطاء الشائعة فيها، وكانت بدايته في الترجمة، مع رواية “جنرال الجيش الميت” للكاتب الألباني. “إسماعيل كاداريه”.
ترجماته عن الألبانية:
في الشعر: أرضي ونشيدي، نفحات من الشعر النسائي العالمي، مئة قصيدة وقصيدة بأقلام الأطفال.
في الرواية: الحصن، العرس، الملف، فتاة الجبال، وقد ابتعد عن ترجمة الدراسات العلمية والفلسفية، نظراً لاحتوائها على المصطلحات الحديثة التي فرضها التقدم العلمي، أو المصطلحات الخاصة ببيئةٍ اجتماعية معينة.
مؤلفاته:
كتاب “الترجمة – علم وفن”، ورواية واحدة هي “الزنزانة رقم ٤”، ومن مجموعاته الشعرية بالألبانية: ما وراء الجبال والبحار، لهيب الشوق، دعوة للمرأة، مئة فتاة وامرأة في حياتي، وله ديوان بالعربية، هو “عزف على قيثارة الوطن” أصدره عام 2000.
مجموعات قصصية: خطوات على الثلج، الفروسية الزائفة، اعترافات امرأة، ومن قصص الأطفال: المدخنة والغيوم، الفراشة، العنكبوت، الريح، الأشجار.
كتب الكثير غير ذلك، ومازال في جعبته كنوز لإبداعٍ لا ينتهي، فترى على رفوفِ مكتبته مجلدات تنتظر أن يُنهيها، ولكن العمر بدأ يحطّ رحاله على أنامله، ويتهادى في ذاكرته.. تبقى تنتظره ليخطّ سطورها الأخيرة، كما “ملامح الواقعية، في القصة والرواية” و “وهج الإبداع النسوي” وغيرهما الكثير..
طفرت من عينه دمعة، عندما تذكّر رفيقة عمره وشريكة حياته وملهمته “سعاد البلعة”، التي غادرته بعد ستين عاماً كانت فيها، السند والقوة والرفيقة والأم والزوجة.
سورية في قلبه وكلماته:
“أتمنى لسورية السلام والأمان، وأن ينتهي نزفها وتضمد جراحها.. سورية أعطتني الكثير.. فيها وُلدت وتعلمت في مدارسها، وتزوجت وأنجبت كلّ أولادي، وكتبتُ على أرضها كلّ مؤلفاتي.
كانت “ألبانيا” تدعوني دائماً لأعيش فيها، ولكن لم أستطع مغادرة سورية، ولم أستطع أن أعيش إلا فيها.
سورية قَبِلتْ أن يكون أهلي المهاجرون من ألبانيا مواطنيها، وأعطتنا الهوية والوجود، بل ودافعت عنا في الأزمات.
أعشق سورية، وأعيش مع الشعب السوري الذي يكافح ويصمد في هذه الظروف الصعبة التي يمرُّ بها.
أمي بذرتْ في أعماق وجداني، بذور المحبَّة لبلدي سورية، وأمنيتي أن أدفن في أغوار تربتها.
التاريخ: الثلاثاء2-3-2021
رقم العدد :1035