كثرت القنوات التي تستهدف رفاهية الإنسان، ولا تستثنى منها الشبكة الذكية بما تقدمه من خدمات تعمل على تسهيل تدفق المعلومات، وتصل خطوط التواصل لأبعد مدى، وهي تبتكر في كل يوم ما هو الأجد لتستقطب إليها مزيد المزيد من مشتركيها الذين يتسرب إليهم شيئاً فشيئاً ذلك الإحساس بأنهم يقبضون على العالم من أدناه إلى أقصاه.
كل ما يُطلب، ويُرتجى، ويعطي الشعور بالثقة أصبح متوفراً، ومتاحاً، حتى رحلات السياحة الفضائية لم تعد بعيدة المنال، فمن يملك المال الكافي لرحلة خرافية استثنائية ينطلق معها خارج غلاف الأرض الجوي ما عاد من ضرب الأحلام لا في اليقظة، ولا في المنام، بل هو من المتاح الآن، وربما بعد عقد، أو أكثر من الزمن يصبح الأمر مألوفاً، وأكثر توافراً لعدد أكبر من الراغبين، والمغامرين الحالمين بتجاوز آفاق الأرض وصولاً إلى السماء، وطمعاً في أن تطأ الأقدام كواكب جديدة لعل فيها حياة جديدة بعيداً عن ضوابط الأرض، وحدودها.
لكن الإنسان سيبقى هو الإنسان بما يحمله من صفاته المتأصلة فيه ينقلها معه أينما ارتحل في أرجاء الكون، ولا سبيل لتغيير الطبيعة البشرية مهما ابتعدت عن مهدها، ومسقطها.. فلماذا الهجرة من الموطن الأول والأخير إلى مواطن بعيدة إذا كانت الممارسات ذاتها ستنتقل مع البشر إلى مواقع أخرى؟.. وإذا كانت مبادراتهم قد أفسدت حتى الآن حيزاً كبيراً من أجواء كوكبهم الذي يحتويهم فإن الأمر لا شك سيتكرر من جديد.. بل ما هو الذي كان بعيداً عن متناول يد البشر، ولم يعبثوا به؟ ما من أمرٍ، أو مكانٍ على وجه هذه الكرة يمكن استثناؤه.
وماذا لو عرفنا أن صناعة الأزياء وحدها قد ساهمت بنسبة لا تقل عن العشرة بالمئة من التلوث العالمي!.. فهل يلزمنا كل هذا الكم من الأزياء، وموضتها، وصرعاتها، ومعها ما يتبعها من أدوات الزينة، والعطور، وغيرها؟ وشركات إنتاجها تحتفي بعلاماتها التجارية العالمية المميزة.. أم أن الهدر الذي بلغ حداً لا يستهان به هو الذي سيجيب على التساؤل عندما نعرف أن الأقمشة التي تمدنا بها الطبيعة من كتان، وحرير، وأقطان، وأصواف، وكذلك جلود حيوانات، تجد نفسها في نهاية المطاف في سلال المهملات، وتدخل في حيز النفايات لأنها الفائض عن الحاجة، فما من جسدٍ عارٍ، وأنما هو هوس الكساء الذي غدا من التفاخر والخيلاء.. والموضة التي تتطور ليس بين عام وعام فقط بل ربما بين الشهور تتسبب بالمزيد من حجم نفايات الألبسة لأنها لم تعد مطلوبة، ولا مرغوبة.. وما بالنا أيضاً بمنتجات الصناعات الرديئة زهيدة الثمن، ومصير أكداسها إذا ما عزف عنها المشترون، وانصرفوا إلى منتجات أخرى أكثر جودة؟.
كل هذا والإنسان لا يرحم فيما يقترفه من جشع الرفاهية، بينما بيئة الأرض أصبحت مسكينة تئن تحت وطأة استنزافه لخيراتها، وتلويثه لأجوائها، واختراقه لسماواتها.
وها نحن مازلنا ننتج في كل المجالات ما هو فائض عن حاجتنا الأساسية بهدف تلبية كافة الأمزجة، والأذواق، والتصاميم، ويخدمنا في ذلك التطور العلمي من برامج إلكترونية فائقة تأتي بمزيد من الأفكار لابتكار منتجات جديدة، وربما غير مألوفة، تجذب إليها عموم الناس لتدور عجلات الإنتاج التي تنفث سموم غازات الصناعات في الهواء، ولا مَنْ يعترض، أو يحاسب إلا بعد فوات الأوان ليصبح بعد ذلك التراجع خطوة إلى الوراء أمراً يكاد يكون من ضرب الخيال ما لم تتخذ القوانين الصارمة، الحاسمة والجازمة، وليس في بلد واحد بل بحق كل البلدان التي تزدهر فيها الصناعات.. وما لم تتعالى نداءات الاستغاثة للحد من الأضرار فإن الأمر لن يتوقف، والجشع سيتفاقم، والأرض ستصبح كرة هرمة لا تقوى على احتمال مزيد من إنجاب الأبناء، وانفجار السكان.. ويصبح ما هو ليس من ضرورة العيش هدفاً لحد ذاته لا مطلباً لسد احتياج.
وربما قاد هذا إلى صدامات مباشرة بين دول كبرى وأخرى للحد من صناعاتها، وتحجيمها، وبما يضمن في الوقت ذاته فوز طرف على حساب آخر، وليصبح التصنيف إلى جانب التنافس يندرج تحت تسمية الريادة مقابل من لا يملك إمكانات المنافسة.. وهذا لا يقف عند حدود الصناعات البسيطة بل يتعداه إلى الأخرى الثقيلة، وما تفرزه التكنولوجيا من أدوات حديثة، ومن أجيال للاتصالات رابعة، وخامسة، وربما سادسة قادمة في الطريق، دخلت في لب حياة كل فرد حتى بات الاستغناء عنها محالاً.. فمن ذا الذي يتخلى عن رفاهية حصل عليها فامتلكته قبل ان يمتلكها؟.
بل ماذا يهم من انفصال جبل جليدي عن باقي أجزائه في منطقة الشتاء القطبي، وهو بحجم يوازي حجم العاصمة الفرنسية نتيجة الاحتباس الحراري مادامت الخيارات في سوق البيع، والشراء، وجني الأرباح، مفتوحة إلى أبعد مدى، ولا سبيل لغلقها، فالسوق قائم وفق قانون العرض والطلب، ومَنْ يطلب يجد ما يريد، ومَنْ يعرض يحصل على الامتيازات التي يريد.. وتبقى الأرض تئن، وتبتدع أساليبها لتحجيم مَنْ يقترف الظلم بحقها، فتصدّر له العواصف، والزلازل، ومؤخراً الأوبئة، وتعطيل المصالح، والظهور المفاجئ لأنواع حيوانية كان سيد الأرض يعتقد أنها انقرضت، وبادت، إلا أنها فقط كانت تختبئ منه لعله يدعها تقبع بسلام في كهوف النسيان بعد أن ساهم في انقراض فصائل، وأنواع عديدة من عائلاتها.
فهل من سبيل إلى المرونة عند الإنسان لمصالحة غير وهمية مع أبناء جنسه، ومع بيئة أرضه يخفت معها جشعه، وطمعه، وسطوته، مادام الهدف الكبير هو الإعمار لا الهدم والدمار؟.
(إضاءات) – لينــــــــــا كيــــــــــــلاني
* * *