ها هي الرواية في الغرب تتحرر من قيود الرواية التقليدية في اختيار موضوعاتها، ومعالجتها بالتالي، وكذلك أساليب السرد، لتنسجم مع واقع جديد هو واقع الثورة الرقمية، والذكاء الصناعي، ولتستقطب إليها القرّاء بعــد أن شغلتهم أجهزتهم الذكية عن الكتاب الورقي، والآخر الإلكتروني، فما عاد أغلبهم يلتفت إليهما لما للوسائل الأخرى من إمكانات كبيرة في التسلية، والإمتاع، والمعرفة أيضاً بما يفوق حدود الكتاب ربما.. ولكن السؤال الذي يتردد: كيف للكتاب أن ينهزم أمام هذا الواقع الجديد؟.. بل إنه سيكون مهزوماً، ومأزوماً ما لم يتحرر من أساليبه القديمة التي لم تعد مستساغة، أو مرغوبة من قبل مَنْ ينسجم مع عصره، ويتابع تطوراته في مجالاته الواسعة، والعريضة.
القرن الماضي لم يكن قد تجاوز منجزات سابِقه بقفزات فارقة كما هو حال القرن الحادي والعشرين مع قرون سبقت، وهو لا يزال في العقود الأولى منه.. وهذه القفزة العلمية غير المسبوقة التي بدأت مفرداتها تخرج إلى حيز الواقع الحالي باتت تستدعي معها آفاقاً جديدة للفكر، والفن. فالمفاهيم قد تبدلت، والرؤى قد أصبحت أوسع، وأشمل في كل الاتجاهات، فإذا كانت إحدى الأعمال الفنية الرقمية قد أحدثت ثورة في ساحة المزادات العالمية لتُباع بأعلى سعر للوحة فنية كعلامة مؤثرة في تاريخ المزادات فإن ذلك سيفتح صفحات جديدة في كتاب الفن المعاصر.. ليس بمعنى نبذ روائع الأعمال الكلاسيكية، وإنما باستجابة الجماهير، وتفاعلها مع الأفكار الجديدة التي تنبثق من عمق واقع أصبح مُعاشاً، وأكثر كثافة من عهود مضت.. وإذا كانت التغريدة الأولى لمبتكر موقع (تويتر) ومؤسسه قد بيعت على شكل شهادة رقمية بملايين الدولارات فلنا أن نقف عند عقلية مستجدة باتت تحكم النظرة إلى الأشياء.
فماذا إذاً عن الرواية، وهي الجنس الأدبي الأكثر انتشاراً، وشيوعاً في وقتنا الحاضر، وتفوقاً في الوقت نفسه على القصة القصيرة، والشعر.. أليس من الأجدر بها أن تتطور هي الأخرى مع مفاهيم عصرها التي تولد فيه، وأحداثه المتسارعة، وما يبزغ في فجره من مبتكرات، ومنجزات، غيّرت أنماط الحياة فيه، كما أنماط التفكير، وعلى مستوى الشعوب والقارات، وليس على مستوى بلدان، أو أمم بعينها؟.. وكل ذلك في محاولة لكسب ود القارئ، وجذبه إليها أكثر فأكثر، وتشكيل ثقافة جديدة.
الرواية البوليسية أو رواية الجريمة، وروايات (هاري بوتر) كنموذج للرواية الخيالية، ورواية الخيال العلمي، ومؤخراً روايات الأوبئة، كلها أصبحت من الأكثر مبيعاً في الغرب لأنها تتحسس نبضاً جديداً أصبح لدى القارئ نتيجة تفاعله مع واقع مختلف للمجتمعات الإنسانية.
وإذا كانت أجواء الخصوصية البيئية قد ميّزت الرواية العربية في القرن الماضي حتى وصلت بها إلى أعلى الجوائز الأدبية كجائزة (نوبل) التي نالها الأديب العالمي (نجيب محفوظ) فإن خطاباً مستحدثاً في القرن الجديد أخذ يفرض نفسه على عالم الرواية كي لا تكتفي بموضوعاتها الراهنة التي تتناولها كالمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والعودة إلى التاريخ، وصراعات الحروب وما ينجم عنها من آثار عميقة وجارحة، إضافة إلى موضوعات العلاقات العاطفية في تشابكها وأخذها أشكالاً لم تكن من قبل نتيجة تبدل بعض المفاهيم المجتمعية، وما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي من مساحات واسعة للتعارف، والحوار، ولو عن بعد، إذ ما عاد الحبيب هو ذلك الأقرب جغرافياً بل إنه الأقرب فكرياً، وعاطفياً، ولو كان في أبعد قارة على الأرض.
أما الدليل على أن على كتّاب الرواية الكبار أن يلتفتوا إلى القضايا المعاصرة أكثر من اهتمامهم بمعالجة الموضوعات شبه التقليدية، أقول إن الدليل على ذلك هو ما تشير إليه أرقام مبيعات ما أنتجه الروائيون الشباب في الآونة الأخيرة بما يفوق أرقام مبيعات مؤلفات كبار الكتّاب بعد أن تناول هؤلاء الجدد موضوعات عصرهم وزمانهم، فاجتذبوا إليهم أعداداً لا يستهان بها من القرّاء، ومن أقرانهم على وجه الخصوص، وكل قارئ يشعر أن الرواية تتحدث عنه بالتحديد.
وإذا كانت الرواية الغربية لم تغفل المعاصرة في أحدث إصداراتها فهل ستغمض الرواية العربية الحديثة العين عنها؟.
(إضاءات) ـ لينـــــــا كيـــــــــلاني