الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
أخال أنّ ما من أديبٍ، يختار جنساً أدبيّاً محدّداً؛ ليكتب فيه، وإذا كان كاتباً في أكثر من جنس أدبيّ، فلا يقصد أن يكتب هذه الفكرة أو تلك شعراً أو نثراً؛ أيّاً من أنواع الشعر أو النثر.. والأمر ليس عفويّاً تماماً، لكنّ لكلّ من الهواية والرغبة والحبّ والمعرفة والثقافة والخبرة، إسهاماً في اختيار هذا النصّ، بهذا الشكل أو النوع أو ذاك.
ومن كتّاب النثر السرديّ، مَنْ كتب القصّة القصيرة، وأخلص لها؛ فلم يكتب سواها، وآخر كتب الرواية فحسب، وانشغل بها ومعها؛ وثالث اشتغل بالقصّة أوّلاً، ثمّ انتقل بعد حين إلى الرواية، ولم يعد إلى القصّة؛ ورابع كتب الجنسين أو النوعين معاً، وأنواعاً أخرى ربّما..
وليس ضروريّاً أن يكون كاتب في جنس أدبيّ ما، على علمٍ مسبق وتامّ بخصائصه وميزاته، فالتجنيس يلي الكتابة، ولا يسبقها؛ فكم من نصٍّ، بدأ به صاحبه، دون أن يدري إلى أين يصل! وكم من كاتبٍ وجد أنّه كتب نصّاً آخر؛ فالعمل فرض نفسه شكلاً ومضموناً، وهناك نصوص لم تنتهِ، وأخرى لم يرض عنها حتّى صاحبها؛ فأنكرها وتخلّص منها؛ لأنّه وجد أنّ الشحنة التي تحملها أقلّ ممّا لديه، أو ممّا حاول أن يبثّه عبرها، أو أنّه خاف أن تفضح أعماقه المعتلّة أو المتّقدة، فيصبح مكشوفاً ومفضوحاً.. لكن، لا أظنّ أنّ هناك من يأتي إلى الكتابة من فراغ أو خالي الرصيد؛ ولا تُترك الكتابة كما جاءت أوّل مرّة؛ بل لا بدّ من إعادة نظر الكاتب، غالباً، بما كتب؛ ليشذّبه، ويهذّبه، ويقرّبه أكثر من الجنس الأقرب إليه! وهناك من كتب، فأضاف إلى الجنس، الذي كتب فيه، أو غيّر من بعض ميزاته، أو كتب جنساً أدبيّاً آخر أو جديداً ربّما، من دون أن يقصد أو يعلم!.
ومن الكتّاب من دوّنوا فكرة في جنسٍ ما، وأعادوا تدوينها في جنس آخر، مقارب أو مختلف، وبقي لكلّ من النصّين كيانه وسماته وتصنيفه وموقعه وحضوره، في الجنس الذي كُتب فيه.
صادفتُ مثل هذا الأمر أكثر من مرّة؛ فأنجزت من فكرة نصّ قصصيّ، سبق أن كتبته في بضع صفحات، رواية مستقلّة بذاتها في مئات الصفحات.
فلماذا حدث هذا؟! وكيف؟! ومتى؟!
لعلّ في الأجوبة، إن كنت على علمٍ أكيد بها، ما يصبّ في جوهر الموضوع قيد التناول..
فربّما وجدتُ، بعد حين طال أو قصر، أنّ القصّة، التي حملت الفكرة تلك، لم تشبعها، ولم تشبعني؛ وهي تحتمل كائنات أكثر، وأحيازاً أوسع، ومسارات أطول وأكثر تشعّباً، ومسابير أعمق، وإشعاعات أبعد؛ ويمكن أن تغتني بخبرات أخرى وأفكار إضافيّة؛ بكلام آخر: لم تُرضِ القصّة، التي تناولتْ هذه الفكرة، رغبتي في التخويض في الموضوع أكثر، وبيان ما لم يبدُ من جوانبٍ وأركانٍ وظلال، يمكن الوصول إليها، وأتوق إلى ذلك؛ فهل تشكّل هذه المتطلّبات بعض الافتراقات بين القصّة والرواية؟!
وهناك لا شكّ افتراقات أخرى!.
فيمكن للرواية، بشكلٍ عام، أن تُكتب في مقاطع، يشكّل كلّ منها ما يشبه القصّة القصيرة أو الطويلة، ويمكن أن تتعدّد المقاطع أو الفصول بعناوين أو أرقام أو من دونها؛ كما يمكن أن يحتاج الراوي إلى كائنات، تمثّل شرائح أخرى في المجتمع، أو أنواعاً أخرى من الأحياء أو الجوامد، وأن يصوغ حوارات عديدة ومديدة، وأن ينقل أحداثاً متنوّعة في حيّز واحد، أو بيئات مغايرة، وأزمنة مختلفة، ويمكن التفصيل أكثر في المواقع والوقائع والملامح والأقوال والأفكار والمشاهد والأوقات.. ويترك العدسة أو العدسات ترصد أكبر قدر من الصورة، وأدقّ العناصر، الموجودة أو المتخيّلة أو المتوهّمة؛ كما يمكن له أن ينوّع في أدواته، وأساليبه، ويمكن أن تتعدّد العلاقات الإنسانيّة والأجيال، وتتغاير، وتتغيّر الظروف، وتتبدّل المواقف، أو تتطوّر بهدوء أو بضجيج وإثارة، ويمكن أن يطول الحديث، وأن تبثّ آراء وأفكار ورؤى متعدّدة، وأن تُرصد أحلام ورغبات ونزوات مشبعة أو مكبوتة، وعثرات ونجاحات، وتجارب وأخطاء وخطايا، ونوايا قاتمة أو مشرقة، ما يغني العمل، ويستدعي تصوّرات وأصداء في سموت عديدة، وأوقات متمايزة، ويمكن للفصول والأحقاب، أن تتوالى، وتتسابق، في ترتيبٍ غير ما نعرفه زمنيّاً وطبيعيّاً، وتتمايز طقسيّاً، وتختلف نوعيّاً..
وفي الوقت الذي يمكن للتكثيف أن يحضر في الجنسين: القصّة والرواية، فإنّه قد يزداد في النصّ القصصيّ أكثر؛ اختصاراً للقول، وزيادة في الإشارة والتلميح للقارئ، الذي عليه قدر من المسؤوليّة، في استحضار ما تجود به خبرته وقدرته على الاستقراء، واصطياد ما بين السطور، وما خلف الكلمات..
كما أنّ هناك تلاقياً بين الجنسين، في اللغة السرديّة العاديّة أو المشحونة المرمّزة، وفي مختلف الموضوعات الواقعيّة والخياليّة والفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة؛ في حين يحضر التاريخ في الرواية أكثر من القصّة؛ لأنّه يحتاج إلى زمنٍ مديد وأحداث عديدة؛ إلّا في حالات قليلة.
والمفارقة في القصّة، يمكن أن تصبح مفارقات في الرواية، لكنّها أشدّ وقعاً في النصّ القصير، إذا ما أحسن الكاتب اعتمادها وصوغها. والحركة قد تتسارع في القصّة أكثر؛ اختزالاً للقول والزمن، ووصولاً أسرع إلى الغاية، أو الحافّة أو الشرفة أو الذروة، التي تطلّ منها على كثير من المشاهد الأخرى؛ فيما يمكن في الرواية التحرّك بحرّيّة أكثر، وجهات أوسع، وإيقاعات متعدّدة، تتنوّع، وتتوزّع، وتناور حسب سياق العمل ورغبة كاتبها وخبرته ومهارته في الحياكة والتلوين؛ مع أنّ القصّة التي تتقطّع، أو ترصد بعين ثاقبة، جزءاً من الحياة لكائنٍ أو لبضع كائنات، يمكن أن تقصد كائنات أخرى في ظروف مشابهة أو مقاربة، أو حتّى معاكسة، أو فصولاً أخرى من حياة، أو الحياة، أو توحي بما هو أبعد من حيّزها، وأوسع من إطار عدستها، أو مدى استشعارها، ويمكن أن تساعد الأسئلة والتساؤلات والنهايات المفتوحة في مدّ هذا المدى، أو النفاذ أبعد في جوهر الأشياء؛ بإثارة المتلقّي على التفكير والبحث عن أجوبة قد تستعصي، ويمكن أن تأخذ هذا الدور المتعدّد مجموعة نصوص قصصيّة، تدور في المنحى ذاته؛ وغصن من الشجرة يعبّر، بشكل أو أشكال، عن الشجرة كلّها؛ ويمكن للرواية أن تعبّر عن ذلك؛ كما يمكن لها أن تتحدّث بأوصاف وتكوينات وتفاصيل أخرى، عن مختلف عناصر الشجرة؛ من الجذر حتّى آخر ورقة أو برعم أو زهرة أو ثمرة، ويمكن أن تختار عناصر منها بترتيب رؤيويّ خاصّ بالكاتب، وتعبير يخصّه؛ كما يمكن أن تعطي الرواية أفكاراً عن نوع من الأشجار، أو غابة متنوّعة الشجر والخضرة، وتستطيع الرواية أن تستغرق في الفكرة والموضوع والرأي، وأن تغتني بحوادث ومرويّات وأقاويل وشواهد وأسئلة وأحجيات، ومجالات للسعي والبحث أكثر وأكثر.
لا يصحّ القياس بمعيار الصعوبة في كتابة القصّة أو الرواية؛ فلكلّ منهما متطلّبات وأدوات وأشكال وأزمنة وحركات وظروف إنجاز، ومهارات وفنون في القول والصوغ، وقدرات على التمثّل والتعبير والانطلاق والابتكار.
ولا يخفى على المتابع للشأن الأدبيّ، وللقصّة والرواية تحديداً، أنّ تغيّرات حدثت في كلّ منهما؛ بنية وصفحات وبناء فنّيّاً ومكوّنات؛ فتقطّعت القصّة، وتكاثفت، واختزلت، وبولغ في ذلك، حتّى اختصرت صفحاتها القليلة أصلاً إلى أسطر أو كلمات؛ بما صار يدعى القصّة القصيرة جدّاً، وصار له كتّابه ونشاطاته وإصداراته من نقد ومجموعات، بالرغم من تحفّظي على قدرة هذا الشكل على الإثارة أو الإضاءة أو التحفيز أو الإشباع، وتماهت الـ (ق.ق.ج) مع أقوال مأثورة، وحكم، وطرائف، ونكات، وأحاج… وتحفّظي يأتي من أنّ أيّ جنس قصصيّ، يفترض أن يحتوي على القصّ، والزمن أو الحركة الداخليّة أو الخارجيّة، بأيّة درجة وأيّ معيار؛ بصرف النظر عن الطول والقصر.. فقد كانت القصّة طويلة، وربّما بدأت كذلك، كنوع من «القصيرة جدّاً»، أو خلاصات لروايات، او اختصارات لها، قبل أن تصبح رشيقة ناحلة وثّابة متشظّية، متكاثفة…
كما أنّ الرواية، التي كانت طويلة جدّاً؛ تمثّلاً بالأساطير والسير التاريخيّة، ربّما، وقد اعتدنا عليها، وتربّينا أدبيّاً على المطوّلات منها إلى وقت قريب، وبلا فصول أو أقسام أو أرقام، وبأجزاء متعدّدة منفصلة بعناوين أو من دونها؛ تكاثفت هي الأخرى، وتعرّضت للاختصار إلى ما يمكن تسميته بالرواية القصيرة، التي يقترب بعضها من القصّة الطويلة، ولكن بتقنيّات جديدة، واختلافات في القوام واللغة والأداء والحركة، والميل إلى الترميز والتلميح أكثر من التصريح، والانحياز أكثر إلى النصّ المفتوح، والانفتاح على الأجناس الأدبيّة والفنّيّة الأخرى من مسرح وسينما وتلفزة؛ من حيث التقطيع والمشهديّة والفصول، التي لكلّ منها موضوع مختلف؛ كالقصّة أو الحلقة من المسلسل، أو المشهد في مسرحيّة.. وكثرت النصوص الروائيّة القصيرة، وصرت تلاحظ شرطاً في المسابقات المتعلّقة بالرواية، يحدّد عدد الكلمات بما لا يزيد على بضعة آلاف؛ بدلاً من بضع مئات أو آلاف عدّة من الصفحات.. وقد ساد هذا الشكل أكثر مؤخّراً، استسهالاً ورغبة في تدوين السير الذاتية، أو التجربة الشخصيّة، أو الرغبة في حمل اللقب: الروائيّ، الذي له وقع حسن وصدى طيّب، لدى المهتمّين والإعلام، وربّما كان هذا تناغماً مع العصر، الذي يتسارع، وتضيق أوقاته، ويقلّ قرّاؤه؛ العصر الذي يتناسب منطقيّاً أكثر مع النصوص القصيرة؛ لكن وللمفارقة، لا يزال يهتمّ ناس هذا العصر وقرّاؤه وكتّابه وأصحاب دور النشر والتوزيع والتسويق فيه، بالرواية أكثر من سواها! وإذا ما حاولنا تأويل ذلك، نقول؛ إنّ الرواية تقدّم مجمل حياة أو ملخّصها أو جزءاً مهمّاً منها لشخص أو لمجموعة كائنات؛ مكتملة الظروف والأحداث والمصائر؛ في الوقت الذي ما تزال هناك نصوص مفتوحة على التأويل والتفكير والانشغال للبحث عن بقيّة أمل أو خلاص.
ويبقى لكلّ من الجنسين وقعه الأثير، وخصائصه، التي قد تتمايز، أو تتداخل فيما بينهما، وتنفتح على الأجناس الأخرى؛ ولا سيّما في هذا الزمن، الذي لا يلزم الكاتب بحدود باتّة؛ وميزات مفارقة تماماً؛ مع تعدّد وسائل العرض والبثّ والتسويق، والاستفادة من النصوص الأدبيّة؛ بتحويلها لتناسب الوسيلة أو المحتوى؛ الذي صار له كتّابه ومؤلّفوه المكلّفون أو المختارون، وقلّ فيه الاعتماد على النصوص الأدبيّة القاصّة أو الراوية التي تصارع للاستمرار والبقاء ما أمكن، مع الانتشار المستشري للوسائل والأدوات والأجهزة الأخرى، والتحوّلات المطّردة في اهتمامات الناس، وانشغالاتهم، وأحلامهم، وتوحّدهم، والسعي اللاهث نحو الأسرع والأدقّ، والأكثر جذباً وإبهاراً وإثارة وإدهاشاً.
* كاتب وقاص
التاريخ: الثلاثاء30-3-2021
رقم العدد :1039