تصارع الولايات المتحدة لتثبيت مكانتها القيادية على الساحة العالمية، تحافظ على أسلوب تفكيرها ونهجها المتغطرس، تسلك كل الطرق الملتوية للتنصل من القوانين والمواثيق التي تحكم نظام العلاقات الدولية، ترفع سقف العداء ضد الدول التي تواجه مدها الاستعماري، ما يشير إلى مدى استشعارها بقرب زوال هيمنتها، وهذا الواقع بات ملموساً أكثر من أي وقت مضى.
سياسة التصادم والاشتباك السياسي مع الصين وروسيا التي عمقتها إدارة بايدن، وأسلوب الضغوط القصوى بحق إيران لانتزاع حقوقها من الاتفاق النووي، وتصعيد نهج العقوبات ضد الدول الرافضة للانضواء تحت عباءتها، لم تجن من ورائها واشنطن ما كانت تطمح إليه لجهة احتواء المتغيرات الحاصلة في موازين القوى العالمية التي باتت تهدد دورها كدولة عظمى، وإنما على العكس من ذلك، سرعت من عجلة تعزيز التحالفات الاستراتيجية بوجه مخططاتها ومشاريعها الاستعمارية، فالجهود التي قادها وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن مؤخرا لإعادة تمتين” التحالف بين ضفتي الأطلسي” لم تحقق الآمال المرجوة للرئيس جو بايدن بخصوص استراتيجيته ” الحازمة” تجاه روسيا والصين، ولم تثبط عزيمة البلدين من المضي قدما في المواجهة، وكذلك فإن نهج العقوبات لم يمنع الصين وإيران من توقيع اتفاق تعاون استراتيجي لمدة 25 عاما، من شأنه تقويض كل المساعي الأميركية لإبقاء إيران في دائرة العزلة الدولية، وأيضا فإن كل الضغوط الأميركية والأوروبية لم تثن إيران عن التمسك بحقوقها المشروعة في الاتفاق النووي.
اجتماع اللجنة المشتركة للاتفاق النووي الذي جرى عبر الفيديو وضم إيران وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا أفضى لتحديد يوم الثلاثاء القادم لبحث إجراءات رفع العقوبات عن إيران وتطبيق الاتفاق، وكان هناك إجماع من تلك الاطراف على ضرورة رفع هذه العقوبات، وإبداء الولايات المتحدة مشاركتها غير المباشرة، يؤكد انها وصلت لقناعة تامة بأنه لم يعد أمامها طريق آخر، لاسيما وأنها فشلت عدة مرات لإدانة إيران في مجلس الأمن، فمبدأ ” خطوة بخطوة” مرفوض إيرانيا، وحتى مجرد اللقاء المباشر بين طهران وواشنطن تعتبره إيران غير ضروري، فالعودة إلى الاتفاق لا يحتاج إلى مفاوضات، وأميركا هي من انتهكته، وهي ملزمة بالعودة من دون شروط، وما سيتمخض عنه اجتماع فيينا القادم، لا شك أنه سيكون المقدمة لبدء الانصياع الأميركي لمتغيرات موازين القوى الحاصلة، وما يفرضه ذلك من حتمية الامتثال لقوانين الشرعية الدولية.
إدارة بايدن ترفع سقوف التصادم عاليا، ولكنها لا تضمن عدم سقوط تلك السقوف فوق الرؤوس الحامية في حكومة الدولة العميقة التي تدير سياساتها، فالعالم يتغير عكس الاتجاه الذي تريده الولايات المتحدة، ودفعها نحو عسكرة العالم لن يعيد إليها هيبتها التي تحطمت بفعل سياساتها المتغطرسة الخارجة عن كل حدود المنطق، والمعايير الاخلاقية والإنسانية، حتى أن لهاث بايدن من أجل حشد أتباعه الأوروبيين لبناء طريق حرير أميركي – وهو ما طلبه من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبل أيام- لقطع الطريق أمام مبادرة الحزام الصينية، لن تسعف إدارته في إيجاد ثقل يوازي التحالفات الاقتصادية العالمية الناشئة، وبالتالي ستواجه الولايات المتحدة عجزا آخر في قدرتها على التفرد والتحكم بميزان القوى العالمي.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير- ناصر منذر