الثورة أون لاين – دينا الحمد:
شعارات براقة، وإنسانية، لكنها في حقيقة الأمر تعبر عن سياسات مدمرة للشعوب والدول، وتنشر ثقافة الاستهلاك، وترسخ التوحش الاقتصادي، سياسات تحاول إلحاق العالم كله بالغرب، وجعل شعوب هذا العالم ومجتمعاته مجرد أدوات مستهلكة لما ينتجه هذا الغرب الرأسمالي، إنها سياسات “الليبرالية الحديثة” وأفكارها الشيطانية الهدامة في كل مناحي الحياة، وعلى رأسها المنحى الاقتصادي.
أول من روج لمصطلح “النيوليبرالية” أو “الليبرالية الجديدة” هو الباحث الاقتصادي الألماني “روستوف” الذي دعا إلى انتهاج سبيل ثالث، يقع بين سياسة حرية السوق المطلقة، وسياسة التدخل الحكومي، ومن أفكاره: “إن الليبرالية الجديدة، التي ندعو إليها اليوم، أنا وزملائي، تطالب بضرورة وجود دولة قوية، دولة فوق الاقتصاد، وفوق المصالح الفردية، دولة تتبوأ المكان الذي يليق بها أن تتبوأه”، لكن هذا الشعار سرعان ما تلقفه مروجو “الليبرالية الحديثة” ومنظروها ليقفزوا حتى على ما طرحه “روستوف” وذهبوا إلى أبعد من ذلك بكثير، أي خلق دول ضعيفة، وتابعة للغرب، وفاقدة للسيادة، وليس لها أي رأي باقتصاداتها، بل لا تتحكم بها أبداً.
وكانت أميركا على الدوام المركز العالمي الأول في الغرب الذي يروج لمثل هذه النظريات الهدامة، ويعمل على تطبيقها من أجل سيطرة واشنطن على العالم، وتحويل مجتمعاته إلى مجتمعات استهلاكية، وتعميم هذه الثقافة عبر ربط اقتصادات العالم بمركز الغرب الأميركي الذي يديره “الليبراليون الجدد”، وإن فشلوا بداية الأمر فإنهم يتجهون إلى حصار الشعوب وتجويعها، وتهديد الحكومات والدول ووعيدها.
وقد أشار السيد الرئيس بشار الأسد في لقائه الأخير مع العلماء في جامع العثمان بدمشق إلى هذه الحقيقة حين قال: “أريد أن أشبه الوضع والعالم الذي نعيش فيه بمحيط.. محيط كبير.. محيط هائج.. أمواجه عاتية تضرب بكل الاتجاهات.. تضرب بالاتجاه الأمني عبر الإرهاب.. تضرب بالاتجاه الاقتصادي عبر الحصار والتجويع.. تضرب بالاتجاه الفكري عبر دفع المجتمعات إلى الدرك الأسفل”.
فقد بات واضحاً أن السياسات الأميركية الاستراتيجية ترتكز على مد النفوذ الأميركي بعيداً عن حدود الولايات المتحدة الجغرافية، والعمل على تعميم قيمها وثقافتها الاستهلاكية، واستثمار العالم وجعله “بقرة” تدر حليبها على مالكي الشركات الجشعة ورؤوس الأموال لديها، وخصوصاً في منطقتنا العربية الغنية بالموارد والثروات.
فالسياسة “الليبرالية الحديثة” التي تتبعها أميركا اتجهت إلى ترسيخ سيطرتها على رؤوس الأموال العربية وتحديداً “الخليجية” وحجزها في مصارفها، حيث تقدر هذه الأموال والاستثمارات بآلاف مليارات الدولارات، وكذلك الهيمنة على مصادر الطاقة وخاصة النفط العربي من أجل التحكم بالعالم، وكذلك تعميم الثقافة الاستهلاكية في مجتمعات المنطقة، التي باتت تعتمد على منتجات الآخرين حتى بأبسط مقومات الحياة.
ومع كل أسف تمكنت واشنطن من نشر أفكارها “الليبرالية الجديدة” في الكثير من المجتمعات العربية، وحولتها إلى مجتمعات ودول وحكومات تابعة لها، تأتمر بأوامرها، وطبقت عليها أفكارها الليبرالية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى فرض قوانين التوحش الاقتصادي عليها، وتحويل أفرادها إلى مجرد آلات وأدوات مستهلكة، لا قيم عندها، وكذلك تحويل حياة الفقراء في هذه المجتمعات إلى موت بطيء، حين أطلقت “الليبرالية الجديدة” العنان لحرية الأسواق وعمليات الخصخصة المعروفة.
لا بل إن الوصفة “الليبرالية” التي اتبعتها بعض الدول العربية أدت إلى التضخم المفرط لديها، وإلى ارتفاع هائل في دينها العام، وعجز مزمن في موازناتها العامة، ولم تعد حكومات هذه الدول تتدخل حتى بتفاصيل اقتصاداتها وعمليات أوراقها المالية، وكانت النتائج سلبية جداً على شعوبها، وصبت فقط في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية الجشعة في أميركا والغرب وموظفيهم من أصحاب نظريات “الليبرلية الجديدة” الهدامة.