الثورة اون لاين -سلام الفاضل:
عرف العرب أدب الرحلات منذ القدم، وكانت عنايتهم به عظيمة في سائر العصور. ولعل من أقدم نماذجه الذاتية، رحلة السيرافي بحرًا إلى المحيط الهندي في القرن الثالث الهجري، ورحلة سلام الترجمان إلى حصون جبال القوقاز عام 227 هـ. ثم تأتي رحلات كل من المسعودي مؤلف “مروج الذهب”، والمقدسي صاحب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، والإدريسي الأندلسي في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، هذا إلى جانب رحلة الرحالة المؤرخ عبد اللطيف البغدادي.
وتأتي رحلة البيروني المسماة “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”، نموذجًا فذًّا مخالفًا لكل ما سلف، إذ تُعد وثيقة تاريخية مهمة تجاوزت الدراسة الجغرافية والتاريخية إلى دراسة ثقافات مجتمعات الهند قديمًا، ممثلة في لغاتها وعقائدها، وعاداتها، مع عناية خاصة باللغة السنسكريتية.
ويعدُّ القرن السادس الهجري وما يليه من أكثر القرون إنتاجًا لأدب الرحلات. وهنا يطالعنا ضمن النماذج العديدة نموذجان هما: رحلة ابن جبير الأندلسي، ورحلات ابن بطوطة الذي يُعتبر من أعظم رحّالة المسلمين. والكتاب الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان (بين عصرين في الجغرافية وأدب الرحلة… نحن والآخر)، تأليف: قاسم وهب، يحتوي على مجموعة من البحوث في الأدب الجغرافي، وأدب الرحلة الهدف منها قراءة الآخر المختلف انطلاقاً من موقفين اثنين، أولهما: قراءته بعين القوي المسيطر الذي يطمح إلى التوسع والامتداد، والثاني: قراءته من موقف المتطلّع إلى الخروج من ربقة التخلف، والركود، والشلل الحضاري المزمن.
يقع هذا الكتاب في عدد من الفصول التي آثر مؤلفها أن يصدّرها بالحديث عن (آفاق الثقافة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري) كما تجلّت في آثار المسعودي، لينتقل تالياً إلى تناول أخبار الصين والهند وما جاورهما من البلدان كما رواها وحققها المغامرون الأوائل من البحّارة والتجّار العرب الذين ارتادوا تلك الأصقاع النائية، وسجّلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عنها.
ويتطرّق هذا الكتاب فيما بعد إلى تتبّع المحاولات العربية الأولى لمعرفة الجارين اللدودين (بيزنطة وروميّة) اللذين وقفا سداً منيعاً في وجه التوسع العربي الإسلامي في الجغرافية الأوروبية، ويسلط الضوء كذلك على ما كتبه الجغرافيون الأوائل عن بلاد النوبة والبُجَه التي اصطلح على تسميتها بلاد السودان في العصور التالية.
كما يعرج هذا الكتاب في بعض مباحثه على النصوص الرحلية المبكرة التي حاول أصحابها تتبّع ملامح النهضة الأوروبية بغية استلهامها، واقتفاء أثرها، ومحاولة الأخذ بالمناسب منها، كرحلة الأمير فخر الدين المعني الثاني إلى أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي التي تعد من أقدم المدونات العربية التي وصفت مدنيّة أوروبا في عصر النهضة، لينتقل مؤلف الكتاب لاحقاً إلى الحديث عن رحلات كل من الطهطاوي، والشدياق، وخير الدين التونسي، وفرانسيس المرّاش، وسواهم من رجال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذين كتبوا بتوسع وإسهاب عن مدنيّة الغرب، والتطور الحاصل في تلك البلاد على الصعد كلها.
ويقف في بحثه الأخير الذي يبدو مخالفاً لما أوردته مباحث الكتاب السابقة على معالجة إشكالية عصرية مهمة هي معضلة النفي والاندماج، وذلك من خلال تجربتين من تجارب الأدب والفكر العربي المعاصر، وهما: تجربة إدوارد سعيد الفلسطيني المنفي من بلاده دون أي أمل بالعودة، وتجربة الكاتب أمين المعلوف الذي يدعو إلى الاندماج في عالم مختلف عن عالمنا المعهود.
بقي أن نشير أخيراً إلى أن هذا الكتاب يقع في ٣١٢ صفحة من القطع الكبير.