«صيفُ البلابل».. في زمنِ الكورونا

 

الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي:

عنوانٌ يشرح النفس، ويطلق لها العنان لتنفّس الصعداء، وأخذ قسطاً من الحب والعشق، بالتلاحم مع الطبيعة البكر، في زمنٍ وطأته أوبئةٌ تقطع الأنفاس، وترمّد الروح وتخمدها.
تنطلق أحداث «صيف البلابل»، التي كتبها الروائي «طراد حمادة» في زمن كورونا ٢٠٢٠، من وسط المدينة التي هجرها سكانها بحثاً عن مدنٍ آمنة من شرورِ الجراثيم القاتلة، والفيروس الذي يحمل الموت السريع لهم.
تبدأ الرواية، بفقدان البطل «ثابت» ذاكرته، إثر حادثِ سيرٍ أثناء انتقاله مع رفيقه من البيت إلى المدينة الطبيعية الآمنة، خوفاً من الجائحة القادمة، وكان الوحيد الناجي من الحادث، ليجد نفسه وسط المدينة الخراب، وبقربه «جواد» ومخطوطة محفوظة بدقّة.. يسير به إلى الشرق، ولم يفهم سوى أنه الرحالة الجغرافي «ثابت بن مرة». هذه المخطوطة التي حمّلها الكاتب مجريات الأحداث، بكل أبعادها، من سياسية واقتصادية واجتماعية، وما تغوص فيه المدينة من غلاءٍ فاحش، وفسادٍ وإفساد، وقهر وفقر ومرض وجهل، يمشي فيها ويحطّ به السير إلى مدينة طبيعية، بدأ يعمل فيه بمهارة، حتى ناداه أحد العمال: «ياعمار»، فردَّ عليه وكأنه اسمه.
هكذا بدأ مرحلة جديدة من حياته، بنى غرفته من الخشب والتبن والطين والقش والسنديان والحور، في مدينةٍ تعتمد على عمل سكانها ضمن قوانين، تمَّ فرضها على من يريد العيش فيها بآمانٍ، بعيداً عن الوباء.
الكلّ يعيش مما يعمل، في الزراعة والحرف والصناعة، منطلقاً من مقولة: «الويل للبلد الذي يأكل مما لا ينتج، ويلبس مما لا ينسج..».
انخرط «عمار» في العالم الجديد، في نسيج المدينة، بعد أن سلّمه «سعد» أحد العاملين في إدارتها، مع المهندس الزراعي «سمير»، قطعة أرض وبقرة حلوب وبذار، وهنا ينسحب الكاتب في حبكة العنوان، ليجعل «عمار» يختار بذار الورد على أنواعه، وصفير البلابل التي تغني للورود، ليصبح بائع الورود في السوق، ويدخل «ثابت» في تساؤلات كثيرة، ويفكّر بالصدفة التي جعلته في غرفته المشرفة على ضفاف نهر عظيم، وبكيفية انتقال الوباء من الصين غازية العالم بصناعاتها المختلفة، والتي تصدَّت للوباء بقوَّة وعزم، وحاولت حصره ومنع انتشاره.
يفكر أيضاً، بكيفية تناول العالم للأحداث بأقاويلٍ مختلفة، وكيف أن الوباء نكب العالم السعيد والفقير والفاسد على السواء، وهو ما أريد منه تذكير العالم بأن الموت قادم، والإنسان فانٍ.
أعطى «سعد» لـ «عمار»، درساً في المحافظة على المدينة وقيمتها التي لا تقل عن قيمة الإنسان، وكيف أن بإمكانه مقابلة الجبن واللبن بأرغفة الخبز من الخباز، واللحم من القصاب، وسيطرة الرأسمالية على الطبيعة، بالتكنولوجيا التي أدت إلى مخاطر جمّة، كالاحتباس الحراري، وصناعة الجراثيم للسيطرة على الكينونة، مستشهداً بقول المتنبي:
من يجعل الضرغام في الصيدِ بازه
تصيده الضرغام في من تصيدا
يُحمّل الكاتب البطل «ثابت»، ما يعتمل في نفسه من هواجسٍ وهموم إنسانية، ليجعله طالبٌ درس الفلسفة، ويقرض الشعر، فبين الفينة والأخرى، ينقر ذاكرته بما يروق له من ظواهر فلسفية وشعرية، يستحضرها من الأيام التي كان يدرس فيها فلسفة البيئة، معتمداً على الربيع الصامت لفيلسوفة البيئة «راشل كارسون» في ١٩٦٢ وما أكّدته في الاستخدام القاتل لملايين الطيور، بفعل مبيد ddt الذي يستمر في قتل الناس المحبة لهذه الطيور..
الأحداث التي تتوالى أمام «ثابت»، جعلته في دوار.. مشاهدته سيارات الإسعاف السريعة للمقبرة، تذكّره لصديقه جان الذي نقله بالسيارة التي انقلبت على ظهرها، وبقي وحيداً يلاقي مصيره مع مخطوطته، وفي لحظة غريبة الأطوار، تحمله هواجس وأحلام وكوابيس، إلى التفكير بكيفية مرور الوباء على هؤلاء الناس، في حين يطرق غرفته أمين سر البلدية، منادياً: «ياعمار.. خذ هذا الصندوق من شتول الورد، وكيساً من البذور، وظرفاً مختوماً فيه برنامج اللقاء في مبنى البلدية بعد العشاء، للاستماع إلى رئيس البلدية، وبنود مشروعه، وعليك أن تشارك وأنت من المهاجرين الجُدد».
يصف الكاتب مبنى البلدية، وكأنه يعود إلى بداية القرن المنصرم، فيه جمال وبساطة وترتيب. بدأ رئيس البلدية خطابه، بتوضيح معنى المدينة المستدامة، التي يعمل الجميع في إدارة الحياة فيها، بما يتوافق مع الاستدامة والتوازن الطبيعي للبيئة والأرض، في تأمين الغذاء والاكتفاء الذاتي، ويتسع الحوار وتظهر حكمة «عمار» في المناقشة، وطرح الحلول، والمشاركة في دعم المدينة المستدامة، والحزب الأخضر الذي يهدف إلى تنمية البيئة والحفاظ على البساط الأخضر فيها، حيث تقود العمل «روز البستاني»، التي فقدت أخاها في المشفى المخصص لعلاج مرضى وباء الكورونا.
تعرّف عليها مع جماعة الأصحاب، في لقاءٍ اتّفق فيه أن العالم لا يزال يعاني، القهر والاستبداد والجهل والمرض وإنكار قيمة الإنسان. قدّمها «سرجون»: «السيدة روز، أستاذة الفلسفة والآداب، وباحثة في علم الفن والجمال، تعلّم سيداتٌ في هذه المدينة، صناعة السجاد والرسم على الحرير» .
شعر «ثابت» بشيءٍ يجمعه معها، وأصبحا على تواصل فكري، وعمل مشترك، وبدأ التعارف الودِّي على ضفاف النهر في حقلته بالوادي.
بطلا الرواية، روز البستاني وحيان، الاسم الحقيقي له، والذي حمل عدة شخصيات حسب مراحله الحياتية في الرواية، اختارهما الكاتب، لما تتطلّبه الظواهر المتقلِّبة والمتعاقبة، في حركة عمل دؤوب لتبدلات الزمن الصعب، الذي اقتحمه فيروس كورونا. «روز» المؤسسة للحزب الأخضر حفاظاً على البيئة، والطبيعة، تجد أن أفكار «عمار» أو «ثابت» كما اعتادوا مناداته، تنسجم مع أفكارها. بائع الورود وصفير البلابل، هذا ما وجد نفسه عليه، ولا يتذكر شيئاً عن هويته إلا جواده ومخطوطه، وهو السرّ الذي عجز عن تفسيره. هنا تتابعه «روز» حسب نظرية برغسون، بأن الوعي لا يتقبّل سوى الذكريات المتلائمة مع حاجاتنا الماسة والحاضرة، وقد وجدت لديه أمرين يساعداها على تفعيل وعي الذاكرة أو التذكّر، الجواد والمخطوطة، فقد سمّى جواده البراق، والمخطوطة الشيء الثمين.. تدخل «روز» من هذا الباب وهي المختصة في تفسير المخطوطات، تزوره في غرفته وتطرح عليه مساعدتها، فيلبي طلبها بفرحٍ.
فتحت المحفظة التي ذكَّرتها بأيام الدراسة في العاصمة بيروت، وجدت أوراقاً لديوان شعر، قرأت عنوانها العريض «نصوصُ الأزمنة الصعبة شتاء عام ٢٠٢٠».. تنبَّهت أنه ديوان شعر غير مكتمل، بدأ كتابته في زمن الكورونا، خلال عزلته التي سمحت له بالتأمل والكتابة، وبجعل هذا النص، مفتاح ذاكرة صاحبه.
قالت له: «ثابت بن مرة»، أنت شاعر عظيم». رد عليها: «كيف عرفت ذلك؟!. من هذه الأوراق؟!. هي قصائد حديثة كتبتها في زمن الوباء. نعم، كتبتها حين كنت في عزلتي المنزلية.».
تقرأ له من النصوص: «أمضيت الليل في قراءة جاك بريفير.. لذلك لن أذهب في النهار إلى صيد العصافير- الأول عندنا الحيتان – الحيتان تولد في أعالي البحار – عندنا ينمو شجر الصفصاف وشجرة السنديان في أعالي الجبال، أما في السهل الفسيح، فقد تعبر رفوف القطا مصحوبة بأغاني بلاد الشمال» .
كان «ثابت» يكمل معها القراءة لسهولة حفظها، فهي تشرح واقع الحال عندما كنا في الحجر: «أحسنت يا ثابت تذكَّر تذكَّر»..
مضى «ثابت» و»روز» إلى الوادي، وسرد لها الأحداث التي جرت له من بدايتها. دراسته للفلسفة، موت والديه، وهجرة أخوته وأخواته إلى أوروبا وأميركا، وهروبه مع صديقه إلى المدينة التي تعرف عليها فيها خوفاً من الوباء.
دخلت «روز» في دوار. لم تكن تظن أنها ستجد شاهداً على موت رفيقيها اللذين اتَّفقت معهما على بناء المدينة، وتأمين المواد الأولية لتأسيس البناء. كانت أول الواصلين لمكان الحادث، حيث احترقت السيارة ومن فيها.
أكملت له: «إن الأقدار تجمع بين الناس، لقد صرت مكان أخي وصديقي. سبحان من يأخذ ليعطي، سنكمل المشوار معاً في رعاية المدينة حتى ننتصر على الوباء».
هذه هي رواية «صيف البلابل»، وفيها البلبل والوردة، هما العاشق والمعشوق، ويرمزا إلى الحبّ والتضحية في سبيل استمرارية الحياة، أما الموت، فلا يمكن أن يدمّر العقل الإنساني، وإنما وكما قال، باسكال وديكارت واسبينوزا: الجسد يموت وتبقى الروح خالدة.
تنتهي الرواية بزواج «روز» و»حيان» على الطريقة الطبيعية في حقلة الورد، مع مراعاة التباعد. لكن، وبعد زوال الوباء يعودا إلى العاصمة، وينقل عرسهما المدينة من حالٍ إلى حال، من الربيع الصامت إلى صيف البلابل.
رواية مميزة، أخذت الفلسفة والحكمة أغلب فصولها وأبوابها ومفاتيحها، تحرّك المشاعر المختلطة، من الألم والفرح، إلى القهر والتغلب عليه، بل إلى العلاقات الروحية والإنسانية، والحوارات والرسائل الحكيمة، وعلاقة العشق المدهشة، والمبنيَّة على روحانية خالدة.
الرواية صادرة عن «دار أرواد» لصاحبها الشاعر والمترجم «أحمد م أحمد»، وتقع في ٢٣٨ صفحة. أما الغلاف، فهو لـ هنرييت تادي»، وفيه ترجمة لعنوانها. البلبل يغرِّد ويغني للورده الحمراء، كي تتفتَّح وتعيش، وهو يضحِّي من أجلها، بانتظار صيفٍ ينتهي فيه الوباء، فتغرد البلابل للورود.
الكاتب «طراد حمادة»، هو شاعرٌ متميّز، برزت شاعريته في أسلوبه الروائي من خلال التنصيص الشعري، وأقوال لشعراءٍ عظماء، مثل المتنبي، والشيرازي، وابن الفارض، والمعري. في جعبته مخزون ثقافي وفكري وفلسفي وأدبي، وقد برز كلّ هذا، في سرده الذي بيّن أن ما نعيشه يفوق «الطاعون» وحالة الحصار لـ «ألبير كامو».

التاريخ: الثلاثاء13-4-2021

رقم العدد :1041

 

آخر الأخبار
توزيع سلل صحية في ريف جبلة مرسوم بمنح الموفد سنة من أجل استكمال إجراءات تعيينه إذا حصل على المؤهل العلمي مرسوم يقضي بالسماح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى والدراسات العليا المنقطعين بسبب الثورة بالتقدم بطلب... مرسوم بمنح الطالب المستنفد فرص الرسوب في الجامعات والمعاهد عاماً دراسياً استثنائياً مرسومان بتعيين السيدين.. عبود رئيساً لجامعة إدلب وقلب اللوز رئيساً لجامعة حماة   انفجارات في سماء الجنوب السوري منذ قليل إثر اعتراض صواريخ إيرانية أوقاف حلب.. حملة لتوثيق العقارات الوقفية وحمايتها من المخالفات والتعديات تفعيل النشاط المصرفي في حسياء الصناعية تحديد مسارات تطوير التعليم في سوريا تعاون  بين التربية و الخارجية لدعم التعليم خطط لتطوير التعليم الخاص ضمن استراتيجية "التربية"   تجارة درعا.. تعاون إنساني وصحي وتنموي مع "اينيرسيز" و"أوسم" الخيرية بدء توثيق بيانات المركبات بطرطوس الهجمات تتصاعد لليوم الرابع.. والخسائر تتزايد في إيران وإسرائيل صالح لـ (الثورة): أولى تحدّيات المرحلة الانتقالية تحقيق الاستقرار والسلم الأهل مشاركون في مؤتمر "الطاقات المتجددة" لـ"الثورة ": استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة ودعم البحث العلمي قتلَ وعذبَ معتقلين في مشفى المزة العسكري.. ألمانيا تحكم بالمؤبد على أحد مجرمي النظام المخلوع  "تجارة إسطنبول": نجري في سوريا دراسة ميدانية لفرص الاستثمار "الفيتو الأميركي".. هل حال دون اغتيال خامنئي؟.. نتنياهو يعلّق الفساد المدمِّر.. سرقة الكهرباء نموذجاً عطري: العدادات الذكية ليست حلماً بعيداً بل هي حل واقعي