الثورة أون لاين- علي الأحمد:
لم تعد القضية الموسيقيةالمعاصرة ،تتعلق بقبول الآخر المغاير ،ومدى الإفادة من علومه الموسيقية ،بل تعدى ذلك الأمر ، نحو تأصيل مفهوم الحداثة والتجديد المعرفي في الحياة الموسيقية العربية المعاصرة التي باتت اليوم عرضة لتبديد عناصرها الابداعية في مهب رياح التغريب والتقليد الأعمى ،خاصة إذا ماعلمنا كيف تؤثر الايديولوجيات الغربية وأقنعتها الماكرة ،على خصوصية هذا الفن وعلى مكتسباته وموروثه الناجز فكراَ وتأليفاَ وممارسة .
– وكما هو معلوم فإن قبول الآخر المختلف لم يشكل عقبة في وجه الموسيقي العربي ومساره الابداعي على مر العصور والأزمنة ،بل كان هذا القبول بمثابة ارتحال مهم نحو تخصيب هويته ونظامه الموسيقي المتفرد ،وبالتالي العثور على صيغ جمالية وانسانية مشتركة كانت إحدى تجليات طريق الحرير الموسيقي الذي ساهم الموسيقي العربي القديم في ترسيخه كعنوان لروحية المثاقفة والحوار الحضاري الخلاق مع قرينه المختلف ،كما فعل على سبيل المثال الموسيقي ” ابن مسجح ” وتلميذه ” ابن محرز ” والعديد من الموسيقيين العرب الأوائل في الارتحال والسفر نحو ضوء الموسيقات المجاورة من رومية وبيزنطية واغريقية وفارسية وغيرها ،وبالتالي التعرف عن كثب على جوهر الابداع الموسيقي في تلك الموسيقات المتقدمة علما ومعرفة ،والاستفادة من تقنياتها وعلومها ،في إثراء وتخصيب النسيج النغمي العربي من منطلق كما أسلفنا الحوار الندي وإثبات الذات ،وليس من منطلق التبعية والدونية التي وقع فيها لاحقا بعض الموسيقيين العرب ،الذين تفهموا هذا الارتحال بمثابة انطلاق وهمي نحو العالمية المزعومة ،كما تفهموا التجديد الموسيقي كإنعتاق كلي من أسر وسلطة الموروث القديم بماله وعليه ،وفي الحقيقة لانريد هنا عبر هذا المقال الموجز أن نناقش الأسباب الموجبة التي حدت هؤلاء الى الارتماء في احضان الآخر ،قدر مايهمنا في الأمر معالجة أسباب عدم تفهم معنى وجوهر التجديد في الحياة الموسيقية المعاصرة ،فالتجديد في أي فن لابد وأن يكون مبني على علم ومعرفة وإدراك حقيقي لحضور الهوية الموسيقية بخصوصيتها وتفرد عناصرها الابداعية في تفاصيل هذه الحياة ،وعلى كافة المستويات الاجتماعية دينيا ووطنيا وعاطفيا ،وبالتالي الانطلاق من هذه المعرفة نحو تكوين حالة جمالية موسيقية أسمى، برؤية معاصرة تتماشى مع العصر لكنها تمتد بجذورها الى تربة هذا الفن الوطنية ،كما فعل أغلب الموسيقيين على مدى التاريخ ،هذا التاريخ الذي علّمنا بأن الثورات الموسيقية المتمردة على تلك الايديولوجيات الضيقة ،وكل مايعيق التطور التاريخي للابداع الموسيقي ،كانت وحدها الملاذ المنشود لخلق جماليات تتأصل في متن الكتابة الموسيقية المغايرة ،وفي إيقاظ الأذن والذائقة من سباتها وخدرها الطويل في مخدع التطريب ،وبالتالي إعادة الصفاء والنقاء الموسيقي الى المتلقي الذي أخذته النتاجات الحسية الى مطارح بعيدة ،وبعيدة جداً عن جوهر الابداع الموسيقي ،وتجليات الحداثة الموسيقية بمعناها ومبناها الابداعي لا التاريخي او الزمني ،فقد يكون هناك تحديث ولايوجد هناك حداثة والفرق واضح وجلي ،وهذا مانبه اليه العديد من المفكرين والباحثين العرب ،حول ضرورة الأخذ بأسباب الحداثة والتجديد ،ونبذ كل ماهو سطحي وتجاري رديء وبالتالي الخروج من الصراع السرمدي مابين القيمة والرواج ،وهذا مطمح للجميع بعد أن وصل الحال بموسيقانا الى مرحلة من العقم وصعود المنتوج الحسي الذي يُعلي الغرائز المكبوتة بما يعني ذلك من نضوب معين الابداع في المشهد الموسيقي المعاصر وانطفاء جذوة الابداع لدى الموسيقي العربي لأسباب معلومة ،بما يفسح المجال واسعاً لأولئك المهرجون من أن يتسيدوا هذا المشهد الذي باتت تختلط فيه الكوميديا والرعب وألعاب الخفة واستسهال هذا المجال الفني بمباركة المال الفاسد المُفسد ،وعودة المقولة الشهيرة “من يدفع للزمار يفرض اللحن الذي يريد ” وهي مقولة باتت تفتح الأبواب المغلقة على جميع الصعد وليس في مجال الفن ،المهم في الأمر تدارك هذا الخطر الداهم الذي ينعكس على جوهر الابداع في موسيقانا العربية وعلى مسارات الحداثة والتجديد العقلاني المنشود ،بما شأنه أن يحدث خرقاً مهما ،في جدار العتم الموسيقي الطويل ،ويخلق حالة من التوازن مابين الموسيقى التجارية السائدة ،ومابين الموسيقى البديلة التي يتبناها الموسيقي العربي بدافع الحفاظ على كل ماهو ناجز وراسخ في هذا الفن والانطلاق منه نحو فضاءات الحداثة الحقة وليس حداثة العولمة بلونها الموسيقي الكئيب وثقافتها الضحلة على المستويين الذوقي والجمالي ،كما فعل ويفعل فرسان الموسيقى الكلاسيكية الحديثة في كل موسيقات الشعوب وكما فعل أيضا الجيل المثقف من الملحنين والمؤلفين العرب بدايات ومنتصف القرن الماضي ممن كتب تجربة موسيقية مفعمة بالجمال والتعبير والتصوير الوجداني ،وهي تجربة أخذت مكانها ومكانتها في سفر الابداع الموسيقي المعاصر لأنها وببساطة تنتمي الى هوية موسيقية منفتحة على بوابات الحداثة والتجديد المعقلن المعرفي ،كما أنها تنتمي الى تربة وجذور هذا الفن بالرغم من حداثتها وطرق تناولها لثيمات وموضوعات معاصرة بلغة رشيقة تخرج عن أساليب وطرق الكتابة القديمة بمالها وعليها ،بمباركة التقنيات والعلوم الغربية وهذا سر خلودها وبقائها نابضة بالحياة على مر السنين أبهجت الناس جميعا بروحها التجديدية وتوقها دائما الى الفرح الانساني المنشود في كل زمان ومكان