ها هو العالم العربي، والإسلامي، يحتفي كما في كل عام بشهر رمضان الذي يستمطر فيه الناس الرحمات من السماء.. بينما العالم يغرق للعام الثاني على التوالي في حمى الوباء، وقد انقضى عام كامل ومازالت الانفراجات للخروج من الأزمة البلاء ضيقة قياساً للمرجو، والمأمول.. بينما تستمر إجراءات الوقاية، والحماية، في الأماكن العامة، وفي المساجد، وغيرها، والدعاء يرتفع مع كل صلاة لأن تأتي الأيام القريبة بأطواق النجاة بعد أن أحكم المرض الغامض قبضته على العالم بأسره، وحار معه الأطباء، والعلماء، فيما هو يتحور، ويتلون ليفلت من قبضة مَنْ يريد له الهلاك، والاختفاء.
وها قد تغيرت عادات الاحتفاء بهذا الشهر، فلا العمرة في رمضان تفتح أبوابها كعادتها لكل مَنْ يرغب بها، وإنما هي في أضيق حدودها.. ولا الأماكن الدينية تزدهر بمرتاديها.. ولا حلقات للذِكر، والإنشاد الديني تقام في احتفاء وابتهاج.. ولا لقاءات تنعقد كما كانت في جميع الأعوام التي سبقت بين الأسر، والأقرباء، والأصدقاء، في تقاربٍ، وتواصلٍ، ومودةٍ تخلقها المشاركة حول موائد الإفطار، والسحور، بل هو الاكتفاء الآن بلقاء يتم عن بعد، أو هي مشاركة الصورة الحية للموائد الرمضانية، ومشاركة الحسرة في الوقت ذاته بين الآباء والأبناء، كما بين الجد والجدة وأحفادهما لغياب اللقاء الذي كان يبهج الطرفين وهما يعدّان معاً مائدة السحور، أو الإفطار.. مشاركة افتراضية باتت تأخذ حيزها حتى لا يُحكم التباعد قبضته فيباعد بين الأهل، والأحباء.
والوباء ولو استطاع أن يفرِّق جمع المؤمنين في دور العبادة إذ تُحظر الصلوات الجماعية التي ينتظرها المؤمنون من عام إلى عام، أو أنها تقام في بعض الدول ولكن في نطاق ضيق لها.. إلا أنه لم يستطع أن يُبعد أجواء رمضان الروحانية، ولا أن يُخفت صوت الصلاة عموماً وهو يصدح بالدعاء، ولو في القلب غصة من هذه الأوضاع الطارئة.. وهو من حيث لا يدري أيضاً جعل الناس يتراحمون فيما بينهم في شهر الرحمة بعد أن ضاقت الدنيا على مَنْ فقدوا وظائفهم، أو على مَن كانوا يجدون في الشهر الفضيل سبباً للرزق، فإذا بضيق ذات اليد يصل إلى كثير من شرائح المجتمع، وليس سوى التعاون المجتمعي من سبيل للمواساة، والتخفيف من عسر حياة جديدة فرضت أعباءها دون رحمة، ولا رأفة.
وها هي التطبيقات الحديثة بدورها هي الأخرى تُفرد مساحة لجديدها الخاص بهذه المناسبة من القراءات القرآنية المختلفة، والأذكار على تنوعها، ومواقيت الصلوات في مختلف مواقعها الجغرافية، وذلك بطريقة تفاعلية تستقطب إليها المستخدِمين، وكأنها التعويض عن فراغ بات يلقي بظلاله على ساحات العبادة بعد أن غاب عنها أهلها رغماً عنهم.. وهي أي هذه الجديدة لم تكتف بذلك فقط بل إنها أيضاً أبتكرت ما يهتم بصحة الصائمين من تطبيقات للصحة، وللتمارين المنزلية، وللأنظمة الغذائية الخاصة باللياقة، وتنظيم مواعيد النوم.. وكأنها الدعوة إلى تعديل السلوك الذي يمارسه الناس في مثل هذه المواقيت من كل عام، والتخلي عن كثير من العادات التي ارتبطت بهذا الشهر حتى في التقاليد الشعبية لدى الشعوب المسلمة التي تحرص على الإبقاء على صفة الروحانية التي تصطبغ بها هذه الأوقات دون غيرها من أوقات السنة.
ويبقى الأمل والرجاء في سنة قادمة أن تعود الحياة لما كانت عليه فيضاء فانوس رمضان بيد بينما اليد الآخرى تمسك بيد حفيد، أو ابن، وقد اعتاد الصغار على بهجة الشهر التي لا تختصرها زينات الشرفات فقط.. وأن تعود أيضاً متعة مشاركة الأسرة بصغارها، وكبارها، في صنع حلوى العيد التي تعبق البيوت برائحتها الشهية.. وأن يعود رواد أماكن التنزه إليها، وألا تضمحل العادات، والتقاليد الرمضانية التي تجلب الفرحة إلى النفوس فلا تدع فرصة لكآبة الفيروس أن تمطر غيمتها السوداء فوق الأمداء من جديد.
* * *
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــــــلاني