الملحق الثقافي:الهام سلطان :
«لي الشرف والفخر، أن تكون أوّل أبجديّة متكاملة من «أوغاريت».. من وطننا الحبيب سورية. الوطن الذي خرجت منه الحضارات، وولدت الكتابة بحروفِ متكاملة .»
هذا ما قاله فنانٌ، تربّعت أنامله بين القلم والوتر، ليعزف من الحروفِ العربيّة، سيمفونية إبداعٍ تردَّد صداها في أرجاء المعمورة، فرسمت على عتبات الشمس حكايتها.
إنه الفنان «نذير نصر الله»، الذي يُعتبر قيمة فنيّة وإنسانية وإبداعية عالية في مجال الرسم والنحت، وفي مجال الخطّ بكلِّ ألوانه وأنواعه.
لقد ضفر من ترانيمه اللونيّة، لحناً موسيقياً عالمياً، وعندل حكاياه على ضفاف نهر الراين ..عزفَ على أوتار الحروف العربيّة، ورتَّل على ضفافها موسيقا غرائبيّة، هي سيمفونية الضوء، المشرق ببلاغةٍ نادرة.
كان له دورٌ كبير في تطوير مسيرة التشكيل السوري، وله تجربة إبداعية متميزة، جعلت منه وهج الكلمة والموسيقا، وفي أعمالٍ جسدت اللوحة ألوان حياتيّة، وقصيدة بصريّة، ومشاهد صوتيّة لا تُسمع، وأحرف وعبارات لا تُقرأ…..
في جميع أعماله الزيتية، وفي رسومه، وأعماله الحفريّة، موسيقا خاصة تراقص الحرف العربي، مع موسيقا لونيّة في عشقٍ صوفي، يدخل في متاهات الإنسان، يتربّع في شغافه، ويردّد صدى روحه، ليرسم زمرّدات الضوء، ضفاف نهاراتٍ من عشق..
قضى حياته في البحث والتنقيب والاستكشاف، فكان رمزاً من رموزِ الفن التشكيليّ السوريّ. أعماله الإبداعية موشومة في ذاكره وطنه، في المتحف الوطنيّ، وفي وزارة الثقافة.
في السابع عشر من شهر نيسان 2019، توقّف قلبه المتعب عن الخفقان، فأغمض إغماضته الأخيرة بعد أن أرهقه المرض والتعب، حيث بقي السنوات الأخيرة من عمره، دون نطق، وهو الذي حوّل الكلمات والأبجديّات والحروف، إلى أنغامٍ سرمديّة، فكانت لوحاته هي الفسحة التي يرمي على ضفافها بوح ألوانه، وإبداع صمته، ناثراً على خطوطها حكاية عشقه لهذا الفن الذي لم يغادره يوماً، تاركاً لنا لوحات تردِّد بين صفحاتها، وعلى خطوطها، حكاية الفن، حكاية الجمال، حكاية الإبداع السوري.
من «القلمون»، ومن شهقة جبالها الجرداء، من مدينة «النبك» كانت صرخته الأولى، الملوَّنة بإشعاعاتٍ إبداعيةٍ، إنسانية.
وفي مدينة الفيحاء «دمشق» أرض الحضارات، والتي درس الفنّ فيها، كانت رحلته الفنّية، وحصل على إجازة من كلية الفنون الجميلة ١٩٧٤
حلَّق عالياً إلى «فرنسا»، وجاور «برج إيفل»، وهناك درس في المدرسة الوطنية العليا، للفنون الجميلة في «باريس».
عاد إلى «دمشق» حاملاً في جعبته الكثير من إبداعات الفن، وأصبح أستاذاً في قسم النحت، كلية الفنون الجميلة، جامعة دمشق.
عمل في نحت الرخام والمعدن، ومصوّر وحفّار، وتميّزت أعماله بالرشاقة والليونة، والانسيابية الموسيقية.
تألَّق في مجال الفن، وحصل على الجائزة الأولى في معرض الغرافيك والخط والموسيقا في فرنسا عام ٢٠٠٠. حصل أيضاً، على الميدالية الذهبية في الشارقة – الإمارات العربية المتحدة ١٩٩٩.
أغنى مسيرة الفن التشكيلي السوري، وأضاف له الكثير من خبرته وإبداعه، حيث امتلك أسلوباً متميزاً، وبصمة خاصة، وقد جمع بين التراث والحداثة، وخرَّج أجيالاً من الفنانين التشكيليين.
منزله متحف إبداعيّ ساحر، وثريّ بأعماله الفنيّة المرتّبة في كلّ مكان، وأيقونات إبداعه بكافة الأحجام والألوان، وبصمات أنامله مازالت أنفاسها تنبض على مساراتِ حيطان غرفته، وتتزاحم مع شهادات التكريم التي حصل عليها داخل وخارج سورية، وهناك بوحٌ للوحةٍ رسمها بعمر الخامسة عشر، لوحةٌ ساحرة، تحمل في عمقها وفي لونها الرمادي المائل للسواد، وعلى عتمة أغصانها، بوح فنان راهن على أنه سيكون في يوم من الأيام، مبدعٌ تتناغم صدى لوحاته في كلِّ العالم…
في صدر المنزل، لوحة لـ «معلولا» ترتسم على صخورها قصة الإنسان، وتنطق بآياتٍ من شغفه للون، للحرف، للوحة، لتفاصيل الفن .
رحل، وبقيت ألوانه تشي بمكامن الجمال الذي لوّن به الحياة، جاعلاً منها لوحاتٍ لا أحلى ولا أشدّ بلاغة، حتى في الصمت.
أهدت زوجته مكتبته وإحدى لوحاته ومنحوتاته، لمكتبة الأسد الوطنية، فخلَّدته في ذاكرتها أيقونة إبداعية، ستبقى للأجيال القادمة، مدرسة ومكتبة فنيّة زاخرة بالفكر والجمال والثقافة والإبداع الذي أّكد بأن:
«الخالدون لا عمر لهم، لقد أفلتوا من التقويم العادي للزمن، وأصبحوا وطناً عنوانه الحضارة».
التاريخ: الثلاثاء20-4-2021
رقم العدد :1042