الملحق الثقافي:ألوان إبراهيم عبد الهادي :
روايةٌ ملحميّة، وعملٌ فنّي جماليّ، ينمُّ عن رحابةِ أفق الكاتب، وبعد نظره، واتّساع معارفه التي أضفت على أسلوبه السرديّ المبدع، روحاً شاعريّة، ورمزيّة مميّزة، تشدّك بأسلوبها الأدبيّ الممتلئ بالمشاعر والأحاسيس، محرّكة أرواح شخصياتها بمستوياتها المختلفة، وجاذبة إيّاك إلى أجواءِ حركتها الدؤوبة والغنيّة، وهو ما يجعلك تتمتّع بقراءتها، وتغرفُ من معينه فكرها، فتُشحن بطاقةٍ هائلة من تدفقّاتِ العاطفة والحبّ العميق.
في هذه الرواية، تمكَّن الكاتب «موسى العلي»، وبإتقانٍ وإبداع نادرين، من إكساء شخصياته الرداء المناسب لكلٍّ منها، ومن إعطائها الروح الحقيقية التي حرّكت كوامنها الداخلية، من قلبِ الحدث، ومعطيات الواقع المُعاش، الذي تضجُّ فيه بوتيرةٍ حياتية تنساق مع صخبها، بصدقِ انفعالاتها وتفاعلها، لتؤّثر بك مقتفياً مساحاتها الفنيّة، المبنيّة من الزمان والمكان، والشخصيات والحدث، بما يرمز إليه.
الزمن في الرواية، وثيقةٌ تاريخية لمرحلةٍ نضاليّة، استغرقت بداية النصف الثاني من القرن العشرين الفائت، تناولها الكاتب بمنتهى الدقة والشفافية، من خلال تجربةٍ ذاتيّة كان البطل فيها.. أما المكان والفضاء الروائيّ لها، فهو «الجولان» مسرح الأحداث، وقد كان ذا بُعدٍ وجوديّ وأيديولوجيّ، وبأمكنةٍ حقيقية، فـ «واسط» قرية البطل «عامر»، ويقصد الكاتب بـ «أرضِ السهل»، دار جدِّ عامر في «سهل الحولة».
كما تشكّل الشخصيات، ملحمة تتمحور في شخصية البطل «عامر» وأيضاً، «سعدى» و»سويلم» و»نبيل»، بأرواحٍ مشبعة بالوطنية المتعلقة بالأرض، وتحمل قضيّة عربيّة فلسطينية، تسعى مناضلة للذود عنها. «عامر» الشعلة التي لا تنطفئ جمرتها، يسير مسار أبيه في دار جدّه، وأبيه الذي روى أرضه بدمائه، رافضاً بيع أرض السهل، يجعل ابنه الفدائيّ، يسلك مسلك أمه التي تصدّت لصفوفِ الحسيان، ورفضت أيضاً بيع أرض السهل للوكالة الصهيونية، قائلة: «أرض السهل لا تُباع».
من الشخصيات أيضاً، «سعدى» الفتاة الجولانية، وحبيبة «عامر» الفلاح الكادح الذي أرعب الغزاة بغاراته المفاجئة، هذا البطل الأسطوري، والأمل كما رآه الآخرون.
ومن الشخصيات المحوريّة التي تمثّل عصب الشرّ والتخلف، شخصية «إحسان وسوف الحسيان» والأمير «مهاوش الفارس» و»صفوت بك» و»العمر شغراوي» والرقيب «عطوان» و»أبو كفاح»، وغيرها ممن كانت ورغم اختلاف اتجاهاتها ومواقفها، تصبّ في قالب المصلحة المشتركة لكلٍّ منها، أما الشخصيات الأخرى الثانوية، فتندرج وفق حواملها الاجتماعية، لتكون خادمة للأعلى منها، مثل «حسن الشيحان» و»عجوب الإبراهيم» و»أبو جدوع» وغيرهم..
تنبع مجريات الرواية، من الأحداث بكل أبعادها، الاجتماعية، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والعاطفيّة، والنضاليّة، والتاريخيّة، والفكريّة، والفلسفيّة، والنفسيّة، لتشمل جميعها معترك الصراع، في تشعّبها وتداخلها وتصاعدها وهبوطها، مرافقة الحركات الداخلية النفسيّة لأبطالها، لتعكس الوقائع بتفاصيلها الدقيقة والحسّاسة، والصراع الوجوديّ الذي فرضه المحتل الإسرائيلي، بتقنياته الحديثة.
وما يشير إلى البعد الاجتماعيّ والاقتصاديّ، الروابط المفكَّكة والمعقّدة بين الأسر الجولانية الفلاحية الفقيرة، مثل أسرة «حسين مرعي» البورجوازية المتحكّمة بالجاه والمال، وأسرة «صطوف الحسيان»، صاحب المضافة والذنوب والسهرات والشوباش، وغيره مما يثير الدهشة والاستغراب لدى الناس البسطاء، عند مواكبة ما لديه ولدى سواه من الأسر، من مواكبة الحركة العصرية.
يظهر البعد النضاليّ الأيديولوجيّ والثقافيّ، في ملامح شخصية «عامر» التصاعديّة، التي تبدأ بكونه الفلاح، لتتنامى مع تطور الأحداث، وإلى أن تصبح ناضجة ومحوريّة وهامة، يكمن فيها صلب العمل الروائي، المقاومة المتحدّية لكلِّ مظاهر الظلم والقهر والاحتلال، والمعجونة بحبّ الأرض التي قلبت منه على مرأى عينيه، رافضاً بيعها للمحتل، مدركاً أن مقاومة هؤلاء الطغمة من المتاجرين بالأرض، أمرٌ يجب أن يعيه الجميع، ويعمل على دعمه وترسيخه بالقول والفعل، مؤكداً أن الشعب المقاوم، هو المنتصر دوماً.
يختم «العلي» روايته، بجعل «عامر» يجثم في السفوح، فتخترق صدره رصاصة تجعله يصيح من الأعماق: «سعدى.. أرض السهل لن نبيع».
يتخضّب السفح بدمه، ليكون المشهد الأخير، حيث تشعر «سعدى» بالخطر المحدّق، وبأنها أصبحت وحيدة ولا يمكنها أن تقاوم، بل وباتت عبئاً على رفاق «عامر» الشهيد.
أوصتهم بـ «عامر» الصغير»، ثم صعدت تفكّر فوق قاسيون، نظرت إلى الأفق البعيد، كان هناك الشيخ الجبل، والجليل الجبل، والكرمل الجبل، وعجلون الجبل، رأت طريقاً واسعاً معبَّداً، يمتدّ إلى تلك الآفاق، فتوجهت بسيارتها إليه، ضاغطة على مدوس المحروقات إلى النهاية.. يهتزُّ قاسيون من الانفجار فتهتز دمشق الملجأ، وقد رأت «سعدى» في وهج الانفجار، العامِرين وأرض السهل. يقف «عامر» في حيّ النازحين، يرى ظلّه في النيران المندلعة، باهتاً ومتذكّراً قول الأم: «الظل لا يرقص إلا خلف نيران أرض السهل.. فكّر أن يشعل ناراً هناك، كي يرى ظلّه يتراقص تحت النيران.
لا شك أن هذا العمل الفني لهذه الرواية، هو خطٌّ إنسانيّ بحت، يحمل أكثر من بعدٍ، وينتمي إلى مدارسٍ متنوعة، الواقعيّة، والرمزيّة، والملحميّة، والتعبيريّة، والاسطوريّة.. تمتزج فصولها الأربع والثلاثون، بأجناس أدبية متنوعة، من القصة والرواية والإنشاد والحكاية والأمثال، بإمكانيةٍ فنيّة أصيلة، وقدرة خارقة مهَّدت طريقها للوصول إلى عمق القارئ، وإثارة وعيه، وامتاع حاسته الفنية معاً، ووجدت المفتاح الفني للعمل، بتمتيع القارئ والناقد أيضاً.
ما يراه إنجلز بقوله: «إن العنصر الجمالي للفن، يتخلخل إذا حاول المبدع الانحراف بنفسه عن المجرى الإنسانيّ العام الصاعد»، يؤكد أن قدرة «تولستوي» في تحريك ثورة الفلاحين على الطبقة الأرستقراطية التي ينتمي إليها بآرائه، جعلته يحقق الصفة الجمالية للعمل الفنيّ المبدع، ليصبح من الأعمال الخالدة، وأرض السهل لا تقلّ قدرة عن هكذا انسجام، وهي تنسجم أيضاً في الصفة الملحميّة لرواية «الدون الهادئ» لـ «شولوخوف»، حيث الثورة ضد الظلم، وهي بإتقان رواية «الطيب صالح»، «موسم الهجرة إلى الشمال»، وإني لأصدق القول، إني قرأت رواية أرض السهل مرات عديدة، وكنت أشعر في كلّ مرة، وكأنني أقرؤها للمرة الأولى.
قد يكون سر هذا الجذب العنيف، والذوبان والتعاطف مع شخصياتها، أسلوب الروائي «موسى العلي» الجمالي، الشيق والممتع، ومن خلال معرفتي الطيبة به، أحب أن أقول: يكفيك أن تكتب أرض السهل، فهي من الروايات العالمية الخالدة.. سيشهد لها الزمن، وسوف تحتلّ حيزاً مهمّاً في زاوية الرواية، وستكون محطّ أقلام الكثير من النقاد، إن لم يكن في عصرنا الحاضر، ففي العصور القادمة، فقد نجحت ببراعةٍ، وكبطل خارجي، في تحريك شخوص روايتك باستقلاليّة مطلقة، لامتلاك الصفة الجمالية ذات النزعة الإنسانية الصادقة.
التاريخ: الثلاثاء27-4-2021
رقم العدد :1043