التجليات الإبداعيّة للحريّة – الفن التشكيلي أنموذجاً

 

الملحق الثقافي:د. عدنان عويّد *

أكثر من مرّة، دعاني صديقي الفنان التشكيلي “عبد الجبار” لزيارة مرسمه، وكنتُ أعده بهذه الزيارة التي لم تتحقق شروط قيامها لأكثر من سنتين، لا أقول أن السبب هو كثرة مشاغلي، ولكن لطبعٍ سيئٍ عندي، وهو تقصيري بحق أصدقائي أحياناً، وربما يعود الأمر لأسبابٍ خاصة بي، وليس هنا مجال للبوح بها.
فجأة قررت أن أزوره، بعد أن لفتت نظري لوحة جميلة له، معلقة على جدار غرفة الضيوف، قدمها لي من سنتين هديّة من باب الذكرى، وطبعه الوفي لصداقتنا.
نظرت إلى اللوحة بتمعّن شديد، وكأني أراها لأول مرّة، منظرٌ طبيعي لجزيرةٍ تقع في وسط نهر الفرات، جمعت في تكنيكها المدرسي، بين الانطباعيّة والرومانسيّة، فجاءت ألوانها متناسقة في حرارتها وحياديتها وزهوها، بالرغم من أن هذه الألوان، كانت مطابقة تماماً لألوان أشجار الجزيرة وتربتها، والمياه المحيطة بها، وبالتالي وفي الوقت الذي غاب عنها التكلّف في مزجِ وتنسيق ألوانها، كان فيها حرفية عالية في ضربات ريشته، وانسيابيتها ودقتها في تصوير معالم المشهد، بحيث تُشعرك وكأنك أمام لوحة فوتوغرافيّة.
لقد أدهشتني اللوحة، وبعثتْ في داخلي شعوراً لا يخلو من حمولةٍ معرفيّة، نبَّهتني إلى تلك القدرات الهائلة التي تكمن في عالم الإنسان الداخلي، وعند تجلّي هذه الحمولة، من خلال إنتاجه لخبراته الماديّة والروحيّة بشكلٍ عام.. هذه القدرات غير المحدودة في تحقيق إبداعات، تؤكّد تلك القوة التي يمتلكها الإنسان، ومن خلالها يقوم بصناعة عالمه الذي يريده، وتكيّفه مع حاجاته من جهة، ثم تفجير مكامن الحريّة التي في داخله، وتصعيده لحالاتٍ إبداعية تتجلّى بكلّ وضوح، بما يقوم بإنتاجه أو إبداعه من جهةٍ ثانية.
إن هذا الشعور الذي كوَّنته لديّ اللوحة، جعلني أسارع للاتصال بصديقي، لأقول له: “لقد أدهَشَتني اليوم لوحتك، فهزّني الشوق لزيارتك”.
سُرّ كثيراً بشعوري هذا، وقال بلهفة: “أنا بانتظارك يا صديقي”.
ارتديت ملابسي، وحملت نفسي إلى منزله.. استقبلني بحفاوةٍ وهو يقول لي: “والله زمان يا صديقي.. أين تحب أن نجلس؟.
قلت: “في المرسم يا صديق”.
ضحك وقال: “ليكن، فأنا أشتغل الآن على لوحةٍ تعبيريّة لم تكتمل بعد، وأريد رأيك فيها”.
دخلنا المرسم، كانت اللوحة معلقة على سلّمها، لم تكتمل ملامحها بعد، ولكنها في نهاياتها.. لوحةٌّ للجسر المعلّق وقد تدمّر الجزء الشماليّ منه… شابٌ في مقتبل العمر، يقف في الطرف الجنوبي من الجسر، وقد تجهّم وجهه بطريقةٍ غاب فيها التناسق الطبيعي لمفرداته، بحيث يشعرك عدم تناسقها هذا، وكأنك أمام تشوّه خلقي أصاب مفردات وجهه، من خارج عالمه الداخلي… أنف كبير، وشفتان صغيرتان غائرتان إلى حدٍّ ما في فمٍ واسع، امتلكته الدهشة التي تؤكدها عينان كبيرتان شاخصتان، ويد طويلة تشير إلى الطرف المهزوم من الجسر… وتفاصيل جسد غير متناسقة الأعضاء أيضاً، ما بين اليدين والقدمين والجذع، وكأنك أمام إنسانٍ من عالمٍ آخر، لا يمتُّ لعالم الإنسان الطبيعي بصلة، أما ألوان اللوحة، فأكثرها حياديّة وباردة كاللون البنيّ والرماديّ، وقد صفّت هذه الألوان على لوحته، بطريقةٍ خارجة عن عالم التناسق والتناسج اللوني، حيث تشعرك بكآبة المشهد كلّه.
طلبت منه أن يتابع الرسم، بعد أن أحضرت زوجته لنا الشاي وخرجت، أمسك ريشته بيده اليمنى، وحاملة ألوانه بيده اليسرى، وراح ينظر إلى لوحته بعينين ثاقبتين، كعينيّ صقرٍ يبحت عن فريسته.. انحناءة بسيطة لرأسه نحو الشمال، بينما يده اليمنى قد ارتفعت قليلاً نحو الأعلى.. أحاسيسه ومشاعره وحركات جسده، كلّها انشدّت باتّجاه لوحته، وتحوّلت إلى قوّةٍ فجّرتها حرّيته الداخليّة، الراغبة بالتحرّر من كلّ ما يعيق تصورات عالمه الجمالية، أو يقيّدها بالضغوط والنوازع النفسيّة والعقلية، أو حتى التكفيرية.
عالمٌ حوصر فيه الإنسان، بطريقةٍ جعلته يخشى حتى على حريته الداخليّة وأدواته المعرفيّة وأحاسيسه وعواطفه، التي يريد عبرها أن يجسّد قهره وظلمه واغترابه وعزلته وعدمه، وبالتالي فقدانه لمعنى وجوده في عالمه الخارجي، في لوحةٍ يشعر بأنه قادر أن يقول فيها، ولمن كان سبباً فيما يعانيه من القهر والمعاناة والتشيّؤ: “أنا قادرٌ على التحدي”. يشعر بقدرته على قول ذلك، بالرغم من أن هذا التحدي، في حالته التي تكمن وراءها حريته الفطريّة، الحرية التي حاصرها الحقد والجهل والسواد والموت، فاضّطرت أن تلجأ للرمزِ، بأشكاله التعبيرية أو السوريالية أوالعبثية .. الخ.
هكذا تتجلّى حرية الإنسان الداخليّة، ورغبته بأن يحيا دون قيودٍ تؤطّره، وتشلُّ تفكيره وجماليّته، وتمنعه من إطلاق إبداعاته ومشاعره، هكذا تتجلّى لدى المبدعين بشكلٍ خاص، فلولا الحريّة الداخليّة التي يشعرون بأنها تفجِّر طاقاتهم، لما كان هناك إبداع، ولا رفضٌ للتقليدِ، ولما كان هناك استمرارٌ للإنسان ذاته، في هذه الحياة.
* كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com

التاريخ: الثلاثاء27-4-2021

رقم العدد :1043

 

آخر الأخبار
خطط لإعمار المدارس وتأهيلها "سويفت" طفرة استثمارية... لا يُدار بكبسة زر مستشار هندسي يطرح حلولاً عملية كخارطة طريق إلى التنمية المستدامة 25 جراراً من مؤسسة حمد بن خليفة لدعم قطاع الزراعة الدولار يواصل التذبذب في دمشق (سوريا الحلم) ليست بعيدة.. ومرحلة النهوض الشاملة قادمة تخصيب اليورانيوم.. عقدة المفاوضات الأميركية-الإيرانية "أوبزيرفر": لقاء الرئيسين الشرع وترامب ليس مجرد رمزية من الوزن الثقيل The NewArab: بنوك سورية تنتظر تفعيل رموز "سويفت" لتعود إلى السوق العالمية "سويفت" يعيد تموضع الاقتصاد السوري على الخارطة.. اكريم لـ"الثورة": نتائج أولية خلال ٣ أشهر جمعية الصحة العالمية: تعاون دولي لمواجهة قضايا حيوية رمال السيليكا.. كنزاً استراتيجياً صامتاً. تحركات استثمارية للاستفادة من احتياطات ضخمة ذات نقاوة عالي... من قطيعة إلى فرصة.. كيف أضرّ نظام الأسد بالعلاقة الأميركية-السورية؟ الشيباني : خطوات عملية لحل ملف الموقوفين السوريين في لبنان اجتماع تركي-أميركي في واشنطن غدا لبحث تحقيق استقرار سوريا "نكبة فلسطين.. تسرد حكاية" شعب مشرد ينشد وطناً مآثر ومراثي علّامة الأدب القديم الدكتور محمد شفيق البيطار في ذكرى رحيله الياسمينة المنسية .. نازك العابد.. امرأة قاومت بالكلمة والبندقية خزان "تل المصطبة" يؤمن المياه لقاطني جنوب دمشق  م. درويش لـ "الثورة": خط كهرباء معفى من التقنين.... فضاءات للراحة تحولت لكابوس حديقة الطلائع في طرطوس.. من أكلها الإهمال أم الفساد ؟