الملحق الثقافي:د. أيمن أبو الشعر*
سمعتُ كثيراً عن مسلسل حارس القدس، وقرأت بعض ما كُتب عنه سلباً وإيجاباً، فشوّقني ذلك لمتابعته في عرضه الحالي، حيث فاتني ذلك إبان بثّه المرة السابقة على شاشة الميادين، لظروفٍ استثنائية.. الآن أنتظر حلقاته بشغفٍ، ولا أضيّع أيّاً منها، نعم لقد شدّني العمل الذي يبدو قريباً من المونادا التعبيرية، لغة – “سيناريو” وصوتاً – “أداء” وصورة” – تعبيراً حركيَّاً وإخراجاً – “توليفاً تكامليَّاً وتشويقاً” في اتّساقه وتكامله، حيث أبدع الكاتب في استنطاق الزمن والبيئة، في إطار اختيارٍ موفّق لما يشكّل نسيجاً متكاملاً، لا نسخة حرفية عن حياة هذا الإنسان، ولكن من خلال اعتماد بعض التفاصيل التي تعكس الزمن وطابعه، وحيثيات حياة هذه الشخصية، ما يشعرك بأنك تعايش الأحداث، ولست مجرّد مشاهدٍ عابر، وبتُّ إن أتيحت لي الفرصة، أتابع حتى إعادة بثِّ الحلقة، ومع ذلك سأتحدث قليلاً عمّا شدّني لهذا المسلسل كمشاهد لا كناقد، أي حول انطباعاتي عن الحلقات الأولى، بعيداً عن المواقف المسبقة سياسياً، والتي باتت مقياساً للأسف، حتى لتقييم الأعمال الفنية…(لا يتطابق مع مواقفنا، فهو سيىء حتى إن كان رائعاً، أو أنه يمثّل مواقفنا، فهو رائع حتى لو كان سيئاً)!.
لعلّهم لا يدركون أنهم يقومون عملياً، بدعاية للمسلسل من خلال الهجوم غير الموضوعي عليه، والذي يحمل خلفية موقف سياسيّ مسبق بشكلٍ ساطع، فقد قرأت بعض التعليقات التي لا توفّر القصف النووي على المسلسل وكاتبه ومخرجة وفنانيه، لورودِ بعض العبارات والمشاهد التي لا تروق لهم، والتي يحسبون أنها لتأييد السلطات في دمشق، من ذلك على سبيل المثال، أن المسلسل ابتدأ من خبر أفرح ابن حلب، المطران كبوجي، وهو تحرير حلب من الإرهابيين !! السوريون فرحوا لتحرير حلب من النصرة والفصائل الإسلاموية المتطرفة، والجيش الإنكشاري التابع للمحتل العثماني، أم كان هؤلاء يريدون من المطران كبوجي، أن يؤيد الذين كانوا يدمِّرون الكنائس ويحرقونها، ويختطفون رجال الدين المسيحي “والإسلامي” ويقتلونهم إن لم يوافقوا على نهجهم، ثم إن الأمانة في مسلسل يعرض السيرة الذاتية، تفترض ألا تجافي مواقفه الحقيقية أيا كانت.. المفارقة كبيرة بين أن تكون معارضاً حضاريّاً، أو مؤيِّداً للمتطرفين الذين ما زالوا يقصفون حلب بين حينٍ وآخر، وقلعتهم الرئيسة قندهار سورية- إدلب-!!! وألا ترى سوى ما تريد، حتى في عملٍ فنيّ، فتشوِّهه لأنه لم يكن وفق مقاييسك!.
على أيَّ حال (حتى الآن) أرى نفسي أمام مسلسل مُتقن، بكلّ ما تحوي هذه الكلمة من معنى، فالتصاعد الدرامي مدروس بدقة، بدءاً من قلم الكاتب المبدع-السيناريست “حسن يوسف” واستكمالاً مع المخرج المتألق “باسل الخطيب”، وعبر الأداء المتميّز لباقةِ الممثِّلين الموهوبين، والفنِّيين الذين أثبتوا جدارة في تنفيذ هذا العمل النوعيّ المميز دون أيّ مبالغة، إذ لا يمكن ألا يلفت النظر، أن الإيقاع متنوع بحيث يكون بطيئاً نسبيّاً (كما في الحلقة الأولى) بما يتماشى مع الموقف السردي أو التأملي، أو المرتبط بالحنين مع مسحة رومانسية محببة، لا تخلو من ظلالٍ حزينة يفرضها المحتوى، لكنّه حتى في الحلقة الواحدة، سرعان ما ينتقل إلى إيقاعٍ متلاحق كي يكسر الرتابة ، كما أنه يتحاشى في هذا وذاك، المبالغة التي يمكن أن تقتل المقصود.. كما نجح المسلسل من خلال “الفلاش باك” في مدِّ جسورِ شبكة تواصل، لا تقطع تسلسل الحاضر بل تعمّقه، من خلال استحضار بعض جوانب الماضي، فعرض مشاهد من طفولة “كبوجي”، أوصلت محورين رئيسيين هامّين، وهما:
1- توضيح شخصية المطران العنيدة في نصرةِ الحق ورفض الظلم، ومواجهته حتى بشكلٍ مباشر “العراك مع الصبي المعتدي في الحارة” منذ أن كان طفلاً.
2 – الربط غير المباشر بين أجواء سورية زمن الاستعمار الفرنسي، والقدس إبان الاحتلال الانكليزي ثم الإسرائيلي، ورؤية المطران لانعكاس هذا الاضطهاد، على المدرّس الذي يعتقله المحتلون الفرنسيون في حلب، والشاب المقاوم الذي يموت تحت التعذيب في القدس، وتقارب موقف الضابطين اللذين يمثلان الاحتلال هنا وهناك، وموقف المناضلين الذين يمثلون رفضه هنا وهناك أيضاً.
أمرٌ آخر لا بدّ من ملاحظته، وهو أن المسلسل بعيدٌ عن الصخب الساذج و”الميميكا” المفرطة، ناهيك بالانتقال من ديكور الاستوديو إلى المشاهد الطبيعية الحيّة، يتم بسلاسةٍ حتى تكاد لا تشعر بأيّ مفارقة، إنه بكلِّ بساطة حياة حقيقية تقدّم نفسها دون افتعال، وحين أقول حتى الآن، فإن ذلك يدخل في إطار المدح بما يشبه الذم، لأنه يعطي قيمة إضافية للمسلسل على مبدأ المثل الشعبي “المكتوب يظهر من عنوانه”، فإذا كانت بضع حلقات وحسب، تستطيع شدّ المشاهد وتحقق هذا الجذب الجميل، فهذا يعني الكثير لأنني لا أعتقد أن المسلسل سيتغير مستواه، فلا الكاتب يمكن أن يكون قد تراخى بعد بضع حلقات ناجحة، خاصة أنه ولا شكّ قد عاين نصه وراجعه ودقّقه من مختلفِ الجوانب، ولا المخرج سيتراجع بعد أن حقق تقدّماً ساطعاً في بضع حلقات (أتحدث عن الحلقات التي شاهدتها) وبات واضحاً أنه يشعر بوليده يكبر بسرعة، ولا الممثلون يمكن أن تتعثر إمكانياتهم الفنية بعد أن تماهوا في الشخصيات التي باتوا يعيشونها، وجلّهم من الفنانين المبدعين، جلّهم من النخبة، وواضح جداً أن هذه اللُحمة النوعية، من المؤلف والمخرج وحشد الممثلين المبدعين، تحققت في هذا العمل.
ويبدو أن النص كُتب عبر مخططٍ درس برويّة، وأميل إلى الاعتقاد بأن الكاتب “حسن يوسف” لم يوفّر مع المخرج الجهد اللازم، وحتى البحث والاستقصاء، للحصول على استشاراتٍ ميدانية حتى في طبيعة اللهجات، وأجواء البيئات الشعبية، سواء من خلال استخدام الأكلات الشعبية كالمأمونية الحلبية واللحم بعجين، أو حتى إحياء الطُرف السياسية التي كانت منتشرة في مرحلته، كطرفة الشيخ تاج الدين الذي طبع صورته على الطوابع البريدية عندما غدا رئيساً، انتقاماً من المتظاهرين الذين كانوا يشتمونه لكي يجبرهم على أن يلحسوا “قفاه” كلما أراد أحدهم إرسال رسالة، وقد كانت هذه الطرفة منشرة بقوة بالفعل أثناء طفولتي..
كلّ ذلك أغنى النص وقرّبه من نفوسنا، سواء من حيث انعكاس طابع الأحياء الحلبية والمقدسية، أو نبرة المحتل المتعالية الوقحة، ونبرة الوطنيّ الشهم المتحدّي، رغم أنه مغلوب على أمره، ومدى رهافة التعبير عن مشاعرِ الوفاء والحبّ وقداسة الوطن، أو حتى بعض التفاصيل الدينية، ومهمٌ جداً وخاصة في هذه المرحلة، تركيز الكاتب على تعايش الأديان شعبياً في سورية في تلك المرحلة، دون أيّ عملية إقحام أو مبالغة، وأتقن المخرج رصد التصاعد الدراميّ الجزئيّ والعام، ما يجعلك أحياناً تحبس أنفاسك في الحلقة الواحدة، التي تصل إلى طفرتها النوعية، مطلقة خيطاً غير مرئيّ، يتشابك مع مسار التصاعد في أحداثِ الحلقات اللاحقة، ويبقي عنصر التشويق دائماً في انتظار المخبوء… يكفي أن أشير مثلاً إلى مشهدين في حلقةٍ واحدة، يقدمان مكثَّفاً كان يمكن أن يحتاج إلى شرحٍ مسهب، لكنّ المخرج أنطق النصَّ بأقصى ما يمكن أن يقوله، من خلال إبرازِ موقفين متناقضين بواسطة أداء الممثلين، ومن ثم مباشرة انعكاسين متلازمين تابعين لهذين الموقفين، فحين يوقف أحد الأبطال الوطنيين من المقاومين للاحتلال، سمساراً حقيراً يساعد اليهود في شراء أملاك الفلسطينيين، نرى انفعالاً حقيقيّاً صادقاً بالغ الدلالة والتعبير عن حقد الوطنيين على هؤلاء الحقراء، ويصب عليه جام غضبه وينعته بأحقر الصفات، ويحذّره من أنه سينال عقابه إن عاد لأفعاله هذه ويطرده، حتى أنني أعتقد أن المخرج جعل الممثل يعيد هذا المشهد أكثر من مرّة، ليصل إلى الذروة المقصودة، “لنربطه بعد قليل مع موقف الضابط المحتل”، ولنحلّل الانعكاس الأول في موقف السمسار، الذي يتصرف فعلاً كحقيرٍ جبان، ثم “ينقلع”، “لنقارنه بعد قليل مع موقف المطران “كبوجي” حين يوقفه الضابط الإنكليزي”، لأنه يساعد الشاب الوطنيّ، ويخفي السكين التي كانت معه.. يقوم الضابط هنا، بتوجيه التهديدات بفوقيّة، ولنلاحظ أنه لا يمكن أن يتحدث كما فعل الشاب الوطنيّ مع السمسار، فهو رغم فوقّيته وتهديده للمطران “كبوجي”، يدرك في قرارة نفسه أنه محتل، ولا يستطيع أن ينفعل بحرقة قلبٍ وصدقٍ متناهٍ، كما فعل الشاب الوطني، فهو يظهر الغطرسة لا الانفعال الصادق الحميميّ، ولنقارن الآن موقف المطران بموقف السمسار، نرى أن المطران يتصرف كإنسانٍ شهمٍ رغم حساسية الموقف وخطورته، حتى أنه يتحدّى قليلاً، ويقول للضابط “فتشني”، ولم يكن بإمكانه أن يفعل أكثر وإلا لغدا المشهد مبالغاً فيه وخارج إطار الواقع، في حين كان السمسار يتصرف كحقير وذليل.
ثم لنتوقّف قليلاً عند مسألة السكين، التي قد تبدو للوهلة الأولى ساذجة وهي جوهرية جداً، فلماذا يحتفظ المطران بالسكين رغم خطورتها، وكونها دليلاً على المشاركة بما يعتبره المحتل جريمة؟؟؟. يمكن أن يرميها وليس صعباً الحصول على سكينٍ أخرى! لا السكين هنا هي رمزٌ لسلاح المقاومة ضد الاحتلال، وبالتالي فهي أمانة لدى المطران لا يمكن أن يفرّط بها، ولو عدنا بسيرته الواقعية، سنرى أنه سُجن لأنه كان يمدُّ المقاومة بالسلاح!..
هذه المفارقات تُقدم عبر لوحةٍ نراها ولا تحتاج إلى شرح، لأنها تعبُرُ أحاسيسنا مباشرة، نحو وعينا في التمييز بين ما هو رائع وجميل، وما هو قبيح ودنيء، ألم يقدم الكاتب والمخرج عبر إبداع الممثلين، تكثيفاً لمعانٍ كبيرة خلال ربما دقيقتين أو أقل؟. وذلك لكي يوغل الكاتب والمخرج في تقديم “واقعية ألمعية” عبر استنطاق قدرة الممثلين على أن يعيشوا الأدوار بحيث تعطي أبعاداً ومدلولات إضافية لا أن يمثلوها تمثيلاً، وأرى أنهم جميعاً تمكنوا من فعل ذلك بإتقان، ولكيلا يبدو أنني شغفت بالعمل إلى درجة أنني بت لا أرى إلا ما هو ناجح ومتقن.
أستطيع القول بكلّ صدق أنه كانت هناك بعض المفارقات، سواء في النص أو الإخراج أو أداء الممثلين، ولكن ليس بين ما هو سيء وجيد، ولا حتى بين وسط وجيد جداً، بل وهذه حقيقة، المفارقات كانت بين ما هو رائع وما هو أروع! وقد أبدع الكاتب والمخرج والممثلون والفنّيون، عبر الموسيقا والمؤثرات الصوتيّة والبصريّة، في تقديم حياة حيّة نابضة، تدخلك في حاراتها وأزمانها ولا تبتعد عن وثائقيّتها في الآن نفسه، وكان ناجحاً جداً في اختيار قصيدة يوسف الخطيب “أبتي”، حتى أنني في البداية ظننت، أنها كتبت للمسلسل خصّيصاً لترافق المقدمة، فالسيرة تعتمد اختصار سنواتٍ في موقفٍ ومسارٍ فكريٍّ كبير في بضع عباراتٍ أو تجسيد حدث أحياناً، بحيث يخدم كلّ ذلك الهدف المنشود، فالمسلسل أو الفيلم الذي يعتمد على السيرة الذاتية، يتجاوزها عملياً من خلال اختزال ما هو عابر، ولا يشكّل حلقات رئيسة، والتركيز على ما هو جوهريّ، في سلسلةٍ تقدِّم في نهاية المطاف بانوراما مكثَّفة، عن جوهرِ وروح ومواقف وفكر، هذه الشخصية أو تلك.
من هنا يمكن القول: إن تقديم حياة إنسان بقامة المطران كبوجي، شخصية وطنية كبيرة لها تاريخ نضاليّ مضيء، يحتاج إلى جرأة وحبّ ومسؤولية، خاصة أنه عايش أحداثنا ونكباتنا وأحلامنا بوفاءٍ نادر، وتعاطف وجدانيّ حميميّ.. تقديم شخصية لها هذه السمات وهي معاصرة لنا، ورحلت منذ فترة وجيزة، ليس بالأمر السهل على الإطلاق، حيث لا بدّ من توخي الحذر والدقّة، حتى ببعض الحذافير والتفاصيل، وبالاختيار النوعيّ الواعي، وقد نجح الكاتب بهذه المهمة، ونجح المخرج والممثلون جميعاً بجدارة، لذا أتوجه إلى أسرة مسلسل حارس القدس، بجميع مبدعيها وأقول لهم: “أصافحكم بحرارة” هذا عمل نوعيّ ناجح.
أشير أخيراً – إن لم تخذلني الذاكرة – إلى أنه كان لي شرف المشاركة مع المطران كبوجي في إحدى النشاطات الجماهيرية لنصرة الشعب الفلسطيني، أثناء إحدى زياراته لدمشق على ما أعتقد، هذا إن لم تخنّي الذاكرة، إذ قد يكون من شارك هو الأب زحلاوي أو مطران آخر، ولكني أرجِّح أنه كبوجي، حيث دُعيت أنا والشاعر “شوقي بغدادي” لمهرجانٍ شعبيّ حاشد في مخيم اليرموك، أو مخيم فلسطين، قبل خمسة عشر عاماً، أكثر أو أقل قليلاً، وألقينا بعض أشعارنا، وألقى المطران كبوجي يومها، كلمة رائعة في هذا المهرجان.. تحية لذكرى هذا المناضل الكبير الذي يستحق فعلاً، أن يُكرَّس مسلسلاً عن سيرته ونضاله..
*شاعر ومسرحيّ ومترجم
التاريخ: الثلاثاء27-4-2021
رقم العدد :1043