الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
من قال إنّنا أضعنا البوصلة؟.. من قال إنّ هناك ما يمحو ذاكرة الوجع في جرحِ خاصرتنا العربيّة؟!.. ربّما أنهكَنا وغرّبَنا غروب الأمنيات، وتوالي الخيبات والانكسارات، ولكنّنا لطالما ترقّبنا “الغضب السّاطع” الآتي، بكلّ ما نملك ممّا ذكر الأخوان رحباني من “إيمان”. لطالما ترنّمنا برائعة محمود درويش: “عيونك شوكة في القلب/ توجعني وأعبدها/ وأحميها من الرّيح”، وكم أثارت حماستنا أبيات سميح القاسم: “تقدّموا تقدّموا/ كلّ سماء فوقكم جهنّمُ/ وكلّ أرضٍ تحتكم جهنّمُ/ تقدّموا/ يموت منّا الطّفل والشّيخ ولا يستسلمُ/ وتسقط الأمّ على أبنائها القتلى ولا تستسلمُ/ تقدّموا”..
النّداء بات عكسيّاً، فأطفال الحجارة قد كبروا ونفخوا النّار في حجارتهم، وامتلكوا زمام التّقدّم واقتحام سكينة الغزاة، وها هم يطلقون نيرانهم ليثبتوا نبوءة القاسم: “نحن قضاء مبرمُ”..
الموت يهطل في فلسطين الحبيبة، وقوافل الشّهداء تواصل صعودها إلى السّماء، قرابين لصرخات “هدى” الّتي لا تزال أمواج شاطئ غزّة الذبيحة تتهدّج بها رغم مرور الزّمن. ها هم أبناء فلسطين الأبيّة يذكّروننا، ولو بعد حينٍ، باستغاثاتِ الطّفل البريء “محمّد الدّرة”، وفي كلّ معراجٍ لروحٍ ارتقت يقولون: “لن تذهب دماؤك هدراً”.
تلك الصّور المحفورة في الوجدان، تستدعي إلى الذّاكرة ما نبضت به قلوب الشّعراء وأرواحهم من بديع المقال. ولعلّ خير ما أستهلّ به مقالي هذا، أبيات الشّاعر الكبير إيليا أبو ماضي: “ديار السّلام وأرض الهنا/ يشقّ على الكلّ أن تحزنا/ فخطب فلسطين خطب العلا/ وما كان رزء العلا هيّنا”.
أمّا الشّاعر عبد العزيز جويدة، فنقرأ تنهيدات القصب في نايه الحزين حين يقول: “يا قدس أحلم كلّ يوم/أن يضمّك ساعداي/ يا قدس مثقوبٌ أنا/ كثقوب ناي/ فلتعزفي حزني لأبكي/ ربّما هدأت خطاي”.
وتورق بين أنامله صور موجعة لحلم العودة، بكلّ ما تحمله من اليأس الموشّى ببريق الأمنيات الّتي تبدو له عزيزة المنال: “يا قدس “مريم” لا يزال بحضنها “عيسى”/ فهزّي نخلةً/ يسّاقط الرّطب الجميلْ/ يا قدس هذا مستحيلْ/ والعقم داءٌ قد أصاب قلوبنا/ وأصاب أشجار النّخيلْ”.
وقد يكون في ما كتبه الشّاعر المصريّ أحمد محرّم، نبوءة اقتراب الغد المنتظر: “فلسطين صبراً إنّ للفوز موعدا/ فألّا تفوزي اليوم فانتظري غدا”.
وفي شعر محمّد اللّبدي نقرأ في القدس “أرض النّبوءات” و”زهر المدارات”، ليتابع بعدها مخاطباً أبناءها: تعالوا يا أحبّائي/ فإنّي قد أقمت اليوم أعيادي/ تعالوا مثلما الرّعد/ تعالوا مثلما البركانْ/ تعالوا مثلما الطّوفانْ/ تعالوا نزرع الورده/ تعالوا نصنع العوده/ أنا القدس”..
ولعلّ ما وصفها به الشّاعر صالح الشّرنوبي، كـ “كعبة للعالمين” و”مهبط الوحي والمرسلين”، وما يخاطبها به مستنهضاً همم أبنائها، هو ما تحتاجه فعلاً الآن، لتكمل طقوس قيامتها: “أقيمي على الدّهر عرس الخلودْ/ وهزّي بصوتك قلب الوجود/ وهبّي فهذا أوان الصّراع/ وقد آن للبغى ألّا يسودْ.”
من منّا لم يهتزّ وجدانه لسماع قصيدة إبراهيم طوقان، كشارة لمسلسل “التّغريبة الفلسطينيّة”، فهي تختزل الكثير: “لا تسل عن سلامته/ روحه فوق راحته/ بدّلته همومه/ كفناً من وسادته/ من رأى نجمة الضّحى/ أضرمت من شرارته/ حملته جهنم/ طرفاً من رسالته”.
وعودٌ على ذي بدء، فالأخوان رحباني قد صوّرا ذلك “الغضب السّاطع” بلغتهما الرّشيقة البليغة، عبر قصيدتهما الشّهيرة “زهرة المدائن” الّتي غنّتها السّيّدة فيروز، فشكّلت ذاكرتنا السّمعيّة منذ عقود: “من كلّ طريقٍ آتٍ/ بجياد الرّهبة آتٍ/ وكوجه الله الغامرِ/ آتٍ آتٍ آتٍ”.
كما غنّت الفنّانة لطيفة التّونسيّة، مع الفنان كاظم السّاهر، قصيدة “القدس” الّتي كتبها الشاعر الرّاحل نزار قبّاني، ولحّنها الساهر: “بكيت حتّى انتهت الدّموع/ صلّيتُ حتّى ذابت الشّموع/ ركعت حتّى ملّني الرّكوع/ سألت عن محمّد فيك وعن يسوع/ يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء/ يا أقصر الدّروب بين الأرض والسّماء/ يا قدس يا منارة الشّرائع/ يا طفلةً محروقة الأصابع… يا قدس يا مدينة الأحزان/ يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان/ من يوقف العدوان/ عليك يا لؤلؤة الأديان؟”.
نموذجٌ شعريٌ آخر بقي محفوراً في خلايا الذّاكرة عبر قصيدة الشّاعر سميح القاسم، الّتي ترنّمنا بها صغاراً في كلّ المناسبات والأعياد الوطنيّة: “منتصب القامة أمشي/ مرفوع الهامة أمشي/ في كفّي قصفة زيتون/ وعلى كتفي نعشي”..
وفي قصيدته الشّهيرة “بيان عن واقع الحال مع الغزاة الّذين لا يقرؤون” يخاطب القاسم المحتلّين الغزاة بلغة شعريّة موجعة ومعبّرة: “خذوا دمي حبراً لكم/ ودبّجوا قصائد المديح في المذابح الظّافرة/ وسمّموا السّنابلْ وهدّموا المنازل/ وأطبقوا النّار على فراشة السّلام/ وكسّروا العظام/ لا بأس أن تصير مزهريّةً عظامُنا المكسّرة”.
ولعلّ قصيدة تميم البرغوثيّ من أبلغ القصائد الّتي صوّرت استباحة القدس وانتهاكها عبر قوانين المحتلّ الجائرة، حيث يصف بشاعة المشهد الّتي تفوق قدرة أبناء فلسطين على الاحتمال: “في القدس شرطيّ من الأحباش/ يغلق شارعاً في السّوق/ رشّاش على مستوطن لم يبلغ العشرين/ قبّعة تحيّي حائط المبكى/ وسيّاح من الإفرنج شقر لا يرون القدس إطلاقاً/ تراهم يأخذون لبعضهم صوراً/ مع امرأة تبيع الفجل في الساحات طول اليوم/ في القدس دبّ الجند منتعلين فوق الغيم/ في القدس صلّينا على الإسفلت/ في القدس من في القدس إلّا أنت”.
ومسك الختام مع قصيدة نزار قبّاني “طريق واحد” الّتي لحّنها الكبير محمّد عبد الوهاب، وغنّتها سيّدة الغناء العربيّ أمّ كلثوم، ويخاطب فيها المقاتلين يدعوهم لأن يأخذوه إلى فلسطين، بلد “القباب الخضر” و”الحجارة النّبيّه” وإلى تلك الرّبى الّتي يشبّه حزنها بـ “وجه مجدليّه”: “يا أيّها الثّوّار/ في القدس في الخليل/ في بيسان في الأغوار/ في بيتَ لحمٍ/ حيث كنتم أيّها الأحرار/ تقدّموا تقدّموا/ فقصّة السّلام مسرحيّة/ والعدل مسرحيّة/ إلى فلسطين طريق واحد/ يمرّ من فوهة بندقيّة”.
أمّهات القصائد كتبت، وترنّم بها أعلام الغناء العربيّ، وتبقى فلسطين قبلتنا جميعاً، وموطن البدايات والنّهايات كما وصفها الشّاعر الكبير محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة/ على هذه الأرض سيّدة الأرض/ أمّ البدايات أمّ النّهايات/ كانت تسمّى فلسطين/ صارت تسمّى فلسطين/ سيّدتي: لأنّك سيّدتي، أستحقّ الحياة”.
طوبى لكم يا صنّاع الحياة على أرضنا السّليبة. الأرض لنا ولا بقاء لمحتلّ مهما طال الزّمن. سدد الله رميكم يا أبناء هذه الأرض الطيبة.
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046